المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ضوابط الصيام الفقهية للشيخ وليد السعيدان حفظه الله


محب الدعوة
08-06-2010, 03:01 PM
ضوابط الصيام الفقهية للشيخ وليد السعيدان حفظه الله :

الضابط الأول
لا يثبت دخول رمضان وخروجه إلا بالرؤية أصلاً أو إلاتمام بدلاً

أقول : اعلم أرشد الله لطاعته أن علامات دخول شهر رمضان وخروجه علامتان لا ثالث لهما ، علامة أصليه وعلامة بدلية فأما العلامة الأصلية فهي رؤية هلال شوال في إثبات خروجه ، فإذا تحققت الرؤية فإنه يعمل بها ولا أن تعداها إلى غيرها وذلك لحديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي  ذكر رمضان وقال : ( لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له )(1) وعند البخاري وغيره من حديث أبي هريرة -  - قال : قال أبو القاسم  : ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين )(2) فقول عليه الصلاة والسلام ( صوموا لرؤيته ) هذه رؤية الخروج ، إذاً لا يثبت دخول شهر رمضان وخروجه إلا بالرؤية ، وهي العلامة الأصلية وهي أقوى العلامات ، فيجب الصوم برؤية هلال رمضان بإجماع المسلمين ، وكذلك يجب الفطر برؤية هلال شوال إجماعاً وقال أبو داود – رحمه الله – في سننه : حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثني عبدالرحمن بن مهدي ، قال حدثني معاوية بن صالح عن عبدالرحمن بن أبي قيس قال سمعت عائشة – رضي الله عنها - تقول : ( كان رسول الله  يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإن غم عليه عدّ العدة ثلاثين يوماً ثم صام )(3) حديث إسناده صحيح ، فهذه الأدلة وغيرها مما لم يذكر تفيد إفادة قطعية أن الرؤية هي العلامة الأصلية في إثبات دخول الشهر وإثبات خروجه فإن تعذرت الرؤية فقد تعذر حينئذ الأصل ، وقد تقرر في القواعد أنه إذا تعذر الأصل يصار إلى البدل ، قال الناظم :
وعلم بأن الأصل إن تعذرا للبدل المشروع صددت مراً
والعلامة البدلية الشرعية للرؤية هي كمال شهر شعبان ثلاثين يوماً هذا في إثبات الدخول ، وإكمال شهر رمضان ثلاثين يوماً هذا في إثبات الخروج والدليل على ذلك الأحاديث المتقدمة فإن فيها قوله  : ( فإن غم عليكم فاقدروا له ) وللبخاري : ( فأكملوا العدة ثلاثين )(1) وله :( فإن غمي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين )(2) والمـراد بقوله  ( فاقدروا له ) أي احسبوا له قدرة وهو إكمال شعبان ثلاثين يوماً ، وخير ما فسرت به السنة هو السنة ، وليس المراد به التضييق كما ذهب إليه بعض أسيادنا من أهل العلم عليهم الرحمة والرضوان ، واعلم أن ترائي الهلال كان هو عادة القوم في زمن النبوة كما في حديث ابن عمر -  - قال : ( تراءى الناس الهلال )(3) الحديث أي اجتمعوا للرؤية وتكلفوا النظر إليه ، فإذا لم تتحقق الرؤية فالواجب علينا الإتمام ، وهذا هو عين هذا الضابط ، فقوله ( أو إلا تمام بدلاً ) أي أنه إذا تعذرت الرؤية فليس لنا إلا العلامة البدلية وهي الإتمام ، هذا هو شرح الضابط لنا إلا العلامة البدلية يبقى عندنا النظر في مسائل مهمة تبحث تحت هذا الضابط ، وأرى أنه من باب إتمام الفائدة عرضها لتكمل الفائدة ويتحقق المقصود فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل وحسن التحقيق :
( المسألة الأولى ) جعل بعض العلماء لدخول الشهر وخروجه علامة ثالثة غير العلامتين المذكورتين ، وهي الشهادة .
وأقول : هذه العلامة تدخل ضمناً تحت العلامة الأصلية وهي الرؤية فإن هذا الشاهد أو المخبر يخبر بماذا ويشهد ؟ لا شك أنه يخبر بأنه رأى الهلال فثبت الرؤية بإخباره فنكون قد صمنا وأفطرنا بالرؤية فإن رؤية الهلال ليس المخاطب بها أناساً معينين بل الخطاب فيها عام للمسلمين لكنها تثبت برؤية بعضهم فإذا أثبتها بعضهم اكتفينا بذلك فإثبات هذا البعض ليس علامة جديدة وإنما هو إخبار أو شهادة بالعلامة الأصلية فالراجح والله أعلم أن الإخبار أو الشهادة على رؤية هلال الدخول والخروج ليس علامة مستقلة بل هي داخلة ضمناً تحت العلامة الأصلية وهي الرؤية ، وإن لم يقبل هذا الكلام فأقول : الخلاف في ذلك لفظي لا ثمرة له فإذا قال المخبر رأيت هلال رمضان وتحققت فيه شروط القبول ثبت دخول الشهر فسواءاً قلنا ثبت بالإخبار أو الرؤية فالنتيجة واحدة فلا نطيل الكلام فيه والله أعلم .
( المسألة الثانية ) اعلم رحمك الله تعالى أنه لا يلزم في المخبر بالرؤية إثباتها بلفظ الشهادة وإنما يكفي فيها لفظ الخبر فقط وذلك لحديث ابن عمر -  - قال : ( تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي  أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه )(1) حديث إسناده صحيح فهذا الحديث يثبت أمرين ، الأول : أن إثبات رؤية الدخول يكتفى فيها بواحد ففيه رد على من قال لا بد من رجلين ، فإن هذا الحديث نص صحيح صريح في الرد عليهم .
الثاني : أن فيه قول ابن عمر ( فأخبرت ) فقبل النبي  خبره واعتمده فصام وأمر الناس بالصيام ، ولم يقل لا بد من لفظ الشهادة لأمره النبي  أن يؤديها به لكن لما لم يأمره دل على عدم الاعتبار لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ومثله أيضاً ما رواه الخمسة عن ابن عباس -  - أن أعرابياً جاء إلى النبي  فقال : إني رأيت الهلال فقال : أتشهد ألا إله إلا الله قال : نعم ، قال أتشهد أن محمداً رسول الله قال : نعم فقال : ( أذن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً )(1) وصححه ابن خزيمة لكن في سنده مقال : وهنا فائدتان :-
الأولى : أنه  قبل خبر هذا الأعرابي وهو واحد فدل على أنه يكتفى بالواحد في إثبات الرؤية ، قال الترمذي : والعمل عليه عند أهل العلم قالوا : تقبل شهادة رجل واحد في الصيام قال النووي وهو الأصح .
الثانية : أن هذا الأعرابي أدلى بالخبر بقوله : ( إني رأيت الهلال ) ولم يقل : أشهد بالله أني رأيت الهلال وقبل النبي  خبره هذا واعتمده مما يدل على أنه لا يعتبر لفظ الشهادة والله أعلم .
( المسألة الثالثة ) ذهب الأصحاب – رحمهم الله – في المشهود عنهم أنه إن حال دون رؤية الهلال ليلة الثلاثين غيم أو قتر أنه يجب صوم اليوم التالي لهذه الليلة وجعلوا ذلك من باب الاحتياط ، وهو قول جملة من الصحابة كعمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنهم - وقال صاحب الإنصاف : وهو المذهب عند الأصحاب ونصروه وصنفوا فيه التصانيف . أهـ .
( المسألة الرابعة ) ذهب الأصحاب – رحمهم الله – في المشهور عنهم أنه إن لم ير الهلال مع صحو ليلة الثلاثين من شعبان أصبحوا مفطرين وكره حينئذ الصوم لأنه يوم الشك المنهي عنه ، وأما إن حال دونه أي دون هلال رمضان غيم أو قتر فإنه يجب صوم اليوم التالي لهذه الليلة حكماً ظنياً احتياطياً بنية رمضان ، وهو قول جمع من الصحابة كعمر وابنه وعمرو بن العاص وأبي هريرة وأنس ومعاوية وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق – رضي الله عن الجميع – وقال في الإنصاف : وهو المذهب عند الأصحاب ونصروه وصنفوا في التصانيف وردوا حجج المخالف وقالوا : نصوص أحمد تدل عليه .كذا قالوا – رحمهم الله تعالى رحمة واسعة وأعلى نزلهم في الجنة - ولكن القول الراجح في هذه المسألة إن شاء الله تعالى أن الاعتبار بالرؤية المحققة أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً ، وذلك لأنه لا يثبت دخول الشهر إلا بالرؤية أصلاً أو بالإتمام بدلاً فقولهم : إن لم يرى الهلال ليلة الثلاثين وكانت السماء صحواً أصبحوا مفطرين هذا الإشكال فيه وليس هذا بيوم شك بل هو يقينه أنه ليس من رمضان ، وذلك لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان واليقين لا يزول بالشك وغلبة الظن منزلة منزلة اليقين دون رؤية غيم أو قتر فإنه يجب الصيام فهذا فيه نظر ظاهر والراجح إن شاء الله تعالى خلافه وذلك لأمور :
الأول : حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله  : ( لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه )(1) والقول بوجوب صوم هذا اليوم الذي يشك أنه من رمضان تقدم لرمضان بصوم يوم وقد ثبت النهي عنه وقد تقرر في القواعد أن النهي المجرد عن القرينة يفيد التحريم .

الثاني : حديث عمار بن ياسر – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله  : ( من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم  )(1) رواه الخمسة وعلقه البخاري وسنده صحيح ، وهذا اليوم يوم لا نجزم أنه من رمضان فهو يوم الشك فيه ، فمن صامه فقد عصى أبا القاسم  وهذا نص صحيح صريح الدلالة على النهي عن صومه .
الثالث : في حديث ابن عمر في الصحيحين أن النبي  قال : ( فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً ) وهو نص في محل النزاع فالأصحاب يقولون فإن غم عليكم فصوموه احتياط والنبي  يقول : ( فإن غم عليكم فأكملوا عـدة شعبان ثلاثـين يوماً )(2) وقوله  مقدم على قول غيره ، كما قال الناظم :
أطع الرسول وسلمن لقوله إياك لا تصغي لقول ثاني
فلو كان صيام هذا اليوم واجباً أو مشروعاً ولو شرعية إباحة لبينه النبي  بياناً كافياً شافياً فلما لم يأمر وعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، وقد تقرر في القواعد أن الأمر بالشيء نهي عن ضده كما قال الناظم :
والأمر نهي عن جميع ضده والنهي قل بواحد من ضده
والمراد في المعنى لا في اللفظ ، فلما ثبت أمر النبي  بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً مع وجود المانع من الرؤية علمنا أنه نهي عن الصوم وحقيقة النهي المجرد عن القرائن التحريم كما أن حقيقة الأمر المجرد عن القرائن الوجوب والله أعلم .
الرابع : أن القاعدة المتقررة أن الأصل بقاء ما كان على ما كان وأنه لا ينتقل عن اليقين بالشك بل لا بد من يقين آخر يزيله ، قال الناظم :
إن اليقين دائماً لا يرفع بالشك أما باليقين يرفع
والأصل هو بقاء شعبان وهو اليقين فلا نزيله إلا بيقين ، ودخول رمضان لا يتحقق ذلك إلا بالرؤية أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً كما هو مقتضى هذا الضابط .
وأما قولهم : إن نصوص الإمام أحمد تدل عليه فيجاب عنه بقول صاحب الفروع : كذا قال : ولم أجد عن أحمد أنه صرح بالوجوب ولا أمر به فلا تتوجه إضافته إليه ولذلك قال شيخنا أي أبو العباس – رحمه الله – تعالى : لا أصل للوجوب في كلام أحمد ولا في كلام أحد من الصحابة . اهـ .
وأما قولهم : إنه مذهب من ذكر من الصحابة فيجاب عنه بجوابين :-
الأول : أنه معارض بمثله فإنه قد ثبت عن بعضهم النهي عن صيامه قال الشيخ تقي الدين : وقد روي عنهم وعن غيرهم النهي عن صوم يوم الشك والأمر بإكمال العدة . إهـ قلت : وقد روى ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي سعيد وأنس وأبي هريرة وحذيفة وعمار وعائشة – رضي الله عنهم أجمعين – وقد تقرر في القواعد أن مذهب الصحابي إذا خالف نصاً فإنه ليس بحجة كما قال الناظم :
قول الصحابي حجة فأصغ لي ما لـم يأتي دليـل معتـلي
وقول من سموا من الصحابة – رضي الله عنهم – معارض للدليل الصحيح الصريح القاضي بالنهي عن صيام يوم الشك .
وأما قولهم : نصومه احتياطاً ، فيجاب عنه بأن الاحتياط إنما هو في متابعة السنة لا في مخالفتها ، بل أقول : إن الاحتياط هو أن لا يصام ذلك اليوم لأن النبي  نهى عن صومه فالأحوط متابعته ، ويقال أيضاً : إن التعليل بالأحوط لا يكون في كل المسائل وإنما يكون فقط في المسائل التي فيها نقطة اتفاق بين أهل العلم ولذلك فإنه قد تقرر في القواعد أن فعل ما اتفق عليه العلماء أولى من فعل ما انفرد به أحدهما ما أمكن ، وهذه المسألة ليس فيها نقطة اتفاق فإننا إذا صمنا أنكر علينا القائلون بالنهي عن صوم الشك وإذا لم نصم أنكر علينا القائلون بوجوب الصوم إذاً فكيف يعلل بالأحوط هنا فضلاً عن أنه احتياط عورض بنهي صحيح صريح ولذلك فإن قاعدة الخروج من الخلاف مستحب لا تدخل إلا في المسائل الخلافية التي فيها جزئية متفق عليها وقد استوفينا شرحها في كتابنا تلقيح الأفهـام .
والمقصود أن القول الراجح الذي تؤيده الأدلة والقواعد هو القول الثاني أعني القول القاضي بالنهي عن صوم هذا اليوم لأن رمضان لا يثبت دخولاً وخروجاً إلا بالرؤية فإن تعذرت فبالإتمام واختار هذا القول أبو العباس بن تيمية – رحمه الله – والله أعلم .
( المسألة الخامسة ) ما الحكم إذا رؤي الهلال في بلد ولم ير في بلد آخر فهل رؤيته في هذا البلد تقضي بوجوب الصوم في سائر بلاد الإسلام أو لا ؟ أقول : هذه مسألة خلافيه كبيرة قديمة ، والحق فيها إن شاء الله تعالى أنه إذا رؤي الهلال في بلد أنه يلزمهم الصوم ومن اتفق معهم في المطالع ، وهو اختيار الشيخ تقي الدين وغيره من المحققين ، فإنه قال : تختلف المطالع باتفاق أهل المعرفة بهذا ، فإن اتفقت : أي المطالع لزم الصوم وإلا فلا وهو الأصح للشافعية وقول في مذهب الإمام أحمد إهـ ، وقال ابن عبدالبر – رحمه الله – : اجمعوا على أن الرؤية لا تراعى مع البعد كالأندلس من خراسان . إهـ قلت : ويدل على رجحان هذا القول عدة أمور : منها : قوله  : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته . فإنه قد علق الصوم بالرؤية فإذا رآه أهل بلد صاموا ويلحق بهم من اتفق معهم في المطالع ، ومنها : ما رواه مسلم في صحيحه قال : حدثنا يحيى بن يحيى ، ويحيى بن إيوب وقتيبة وابن حجر ، قال : يحي بن يحي ( أخبرنا ) وقال الآخرون ( حدثنا ) إسماعيل وهو ابن جعفر عن محمد وهو ابن أبي حرملة عن كريب ( أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال فقدمت الشام فقضيت حاجتها واستهل عليّ رمضان وأن بالشام فرأيت الهلال ليلة الجمعة ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبدالله بن عباس – رضي الله عنهما – ، ثم ذكر الهلال ، فقال متى رأيتم الهلال فقلت : رأيناه ليلة الجمعة فقال : لا ، لكننا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه . فقلت : أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ، فقال : لا ، هكذا أمرنا رسول الله  )(1) وقال النووي – رحمه الله – في ترجمته لهذا الحديث ( باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم ) وأنهم إذا رأوا الهلال ببلد لا يثبت حكمه لما بعد عنهم ) إهـ .
قلت : وتحديد هذا البعد الصحيح فيه إن شاء الله تعالى اعتبار اختلاف المطالع واتفاقها لا بمسافة القصر كما هو وجه عند الشافعية رحمهم الله تعالى . وهذا الحديث نص في محل النزاع والله أعلم .
( المسألة السادسة ) ما الحكم إذا رأى رجل هلال رمضان أو شوال ولم يقبل خبره فهل يصوم ويفطر سراً أو لا يصوم ولا يفطر إلا مع الناس ؟ فيه خلاف بين أهل العلم – رحمهم الله تعالى – والأقرب إن شاء الله تعالى أنه لا يصوم ولا يفطر وحده بل يصوم ويفطر مع الناس وهو رواية في مذهب الإمام أحمد واختاره الشيخ تقي الدين أبو العباس – رحم الله الجميع – فإنه قال : يصوم مع الناس ويفطر معهم وهذا أظهر الأقوال . إهـ ودليل رجحان هذا القول حديث أبي هريرة -  - قال : قال رسول الله  : ( الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون )(2) رواه الترمذي وقال : حديث غريب حسن ، وصححه الألباني – رحم الله الجميع – وللترمذي أيضاً وصححه عن عائشة – رضي الله عنها – مرفوعاً ( الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحي الناس)(1) قال شيخ الإسلام قدس الله روحه : إن هذا اليوم الذي تعلمون أنه وقت الصوم والفطر والأضحى فإذا لم تعلمون لم يترتب عليه حكم . إهـ وقال الإمام أحمد – رحمه الله – : يصوم ويفطر مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحو والغيم ، وقال : يد الله على الجماعة إهـ وقياس هذه المسألة فيمن رأى هلال النحر وحده فإنه لا يقف إلا مع المسلمين . قال أبو العباس : ما علمت أن أحد قال من رآه – أي هلال النحر – يقف وحده دون سائر الحجاج و أنه ينحر في اليوم الثاني ويرمي جمرة العقبة ويتحلل دون سائر الحجاج وإنما تنازعوا في الفطر فالأكثرون ألحقوه بالنحر وقالوا : لا يفطر : إلا مع المسلمين وآخرون قالوا : بل يفطرون كالصوم ولم يأمر الله العباد بصوم واحد وثلاثين يوماً ، ثم قال : وتناقض هذه الأقوال يدل على أن التصحيح هو مثل ذلك في ذي الحجة وحينئذ فشرط كونه هلالاً وشهراً شهرته بين الناس به حتى لو رآه عشرة ولم يشتهر ذلك عن عامة أهل البلد لكون شهادتهم مردودة أو لكونهم لم يشهدوا به كان حكمهم حكم سائر المسلمين فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين وهذا قوله : ( صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون ) إهـ كلامه – رحمه الله – وقوله أقرب إلى الاستدلال الشرعي والاعتبار الصحيح والله أعلم .
( المسألة السابعة ) ما الحكم لو رؤي الهلال نهاراً أو لم تقم النية على رؤيته إلا بالنهار ؟ أقول : هذا فيه خلاف بين أهل العلم والفضل – رحمهم الله – فالمذهب عند الأصحاب أنهم يمسكون ذلك اليوم ويقضونه ، أما وجوب الإمساك فلأنه من خصائص رمضان وأما قضاؤه فلأنهم لم يأتوا فيه بصوم صحيح لعدم تبييت النية ولأن بعضهم يمكن أن يكون قد وقع منه مفسد للصوم من أكل أو شرب أو جماع أو نحوه ، لكن الأقرب إن شاء اله تعالى أنه يلزمه الإمساك دون القضاء ، وذلك لأن القاعدة المتقررة عند أهل العلم – رحمهم الله – أن التكليف مشروط بالعلم ، وهو لم يعلم بالوجوب إلا في أثناء النهار فخوطب بالصوم حين علمه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها واختار هذا القول أبو العباس – رحمه الله – فإنه قال : ويصح صوم الفرض بنية من النهار إذا لم يعلم وجوبه بالليل كما إذا شهدت النية بالنهار ، وقال : ومن تجدد له صوم بسبب كما إذا قامت البينة بالرؤية أثناء النهار فإنه يتم بقية يومه ولا يلزمه قضاء وإن كان قد أكل وفي الصحيح من حديث سلمه بن الأكوع -  - قال : ( أمر النبي  رجلاً من أسلم أن أذن في الناس من كان أكل فليصم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم فإن اليوم عاشوراء )(1) ووجه الشاهد منه أنه أمر من لم يأكل بإتمام الصوم مع إنشاء النية من النهار والقول الراجح إن شاء الله تعالى أن صوم عاشوراء كان في بدايته فرضاً ثم نسخت فريضته ، فمع كونه فرضاً جاز إنشاء النية له من النهار ولم يشترط تبييتها من الليل في حق من لم يعلم بالوجوب إلا في النهار ولم يشترط ، وكذلك من كان قد أكل فإنه يتوقف عن الأكل وينشئ نية الصوم ، ولم يأمر أحداً منهم بالقضاء مما يدل على أنهم طولبوا بالنية من حين علمهم بالوجوب ولم يضرهم عدم تبييتها من الليل ولم يضرهم أكلهم من النهار الذي كان في علم الله تعالى أنه يجب صومه لكنهم لا يكلفون بإدراك علم الله تعالى وإنما يكلفون بما يعلمون فإنه لا تكليف إلا بعلم وهؤلاء الذين لم تقم عندهم البينة على إثبات دخول الشهر إلا في النهار إنما يطالبون بالنية من حين العلم ولا يضر تقدم مفسد من مفسدات الصوم قبل العلم بالوجوب لأنه قبل العلم به لا تكليف عليه فلا موآخذه عليه وهذا القول هو الذي يتوافق مع روح الشريعة إن شاء الله تعالى ولأن الدليل دل على أن الصائم إذا أكل أو شرب ناسياً أنه يتم صومه ولا يضره ذلك لأنه ناسِ مع علمه بأصل الوجوب فما بالك بالذي أكل أو شرب وهو جاهل بالوجوب أصلاً ، فلاشك أنه أحق بالعذر من باب أولى وقد تقرر في القواعد أن مفهوم الموافقة الأولوي حجة والله تعالى أعلم وأعلى وبهذا المسألة نختم الكلام على هذا الضابط ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة .

محب الدعوة
08-06-2010, 03:02 PM
الضابط الثاني
مفسدات الصوم توقيفية

أقول : لقد طرحنا في تلقيح الأفهام أن العبادات المنعقدة بالدليل الشرعي لا تنقض إلا بالدليل الشرعي ، وأن العبادات تفتقر إلى دليل في أصل إثباتها وتفتقر إلى الدليل في إثبات صفاتها وشروطها وكذلك تفتقر إلى الدليل في إبطالها ، فليس باب إبطال العبادات مفتوحاً لكل أحد يقرر فيه ما يشاء وإنما هو باب توقيفي على الدليل الصحيح الصريح من الكتاب أو السنة الصحيحة أو ما تفرع عنها من الإجماع والقياس المستوفي لأركانه ، فمن زعم أن قولاً من الأقوال أو فعلاً من الأفعال مبطل لهذه العبادة فإننا نطالبه بالدليل لأن الأصل عدم الإبطال ومن خالف الأصل فعليه الدليل ، لأن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه ، ومن هذه العبادات الصيام ، فإنه عبادة دل الدليل الشرعي على أن حكمها ينعقد بالإمساك عن المفطرات بالنية من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس ، فحيث انعقد الصوم بالدليل الشرعي فإن الأصل استمرار حكمه وبقاؤه ومن ادعى أن حكمه ينتقض بكذا وكذا فإن قوله هذا موقوف على الدليل الشرعي فإن جاء به فعلى العين والرأس وإن لم يأت به فلا قبول ، وليس له حق أن يطالبنا هو بالدليل على عدم الإبطال لأن الأصل معنا ومن كان الأصل معه فإنه لا يطالب بالدليل ، وهذا الكلام من تعظيم حرمات الله وشعائره التي هي علامة تقوى القلوب نسأل الله تعالى أن يجعلنا من أهل التقوى في الظاهر والباطن والسر والعلانية ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فإن قلت : فما هي مفسدات الصوم التي دل الدليل الشرعي على أنها مفسدة ؟ أقول : إن أهل العلم – رحمهم الله – وأعلى نزلهم في الجنة وغفر لهم ورحم أمواتهم وثبت أحياءهم قد استقرؤا الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح فوجدوا أن هناك من المفسدات ما هو متفق عليه ومنها ما هو مختلف فيه اختلافا قد نصر الدليل أحد طرفيه وهناك مفسدات خاضعة للاجتهاد ولا ينكر على المخالف فيها وهي كما يلي :-
منها : الجماع بشرطه الذي سيأتي إن شاء الله تعالى ، فإنه من مفسدات الصوم ودليله قوله تعالى : ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم )(1) فدل ذلك على أن الجماع إنما هو حلال في ليلة الصيام فقط وإن تركه عند تبين الخيطين من بعضهما من إتمام الصيام فلا يتم إلا بذلك ولما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -  - : (أن رجلا جاء إلى النبي  قال يا رسول الله هلكت قال وما أهلكك قال وقعت على أهلي وأنا صائم قال : هل تجد رقبة تعتقها قال : لا ، قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين . قال : لا ، قال : هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً قال : لا ، فجلس فأتى النبي  بعرق من تمر فقال : أين السآئل ، قال : ها أناذا يا رسول الله ، فقال خذ هذا فتصدق به ، قال : أعلى أفقر مني يا رسول الله فوالله ما بين لا بتيها أهل بيت أفقر مني ، فضحك النبي  وقال : أطعمه أهلك )(2) وفي الصحيح أيضا من حديث أبي هريرة -  - : ( يدع طعامه وشرابه وشهـوته من أجلي )(3) .
ومنها : الأكل والشرب بشرطه الآتي إن شاء الله تعالى فإنه من مفسدات الصوم بل هو أصل الباب ودليل ذلك الآية المتقدمة فإن فيها : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام – أي ترك الأكل والشرب – إلى الليل )(4) فأباح الله تعالى الأكل والشرب إلى نهاية ثم أمر بالإمساك عنهما إلى نهاية الليل وفي الحديث السابق :( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ) وقال عليه الصلاة والسلام : ( من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه )(1) فهذا منطوقه ويفهم منه أنه إن أكل أو شرب عامداً ذاكراً لصومه أن صومه يفسد بهذا وقد تقرر في القواعد أن مفهوم المخالفة حجة ، والله أعلم .
ومنها : استدعاء القيء أي تعمده فمن استقاء عمداً فإن صومه يفسد وذلك لحديث أبي هريرة -  - قال : قال رسول الله  : ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء عمداً فليقضي )(2) رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، وقال : العمل عليه عند أهل العلم ، وقال الدارقطني : إسناده كلهم ثقات وعن عمر نحوه موقوفاً وقال الإمام البغوي والخطابي وابن تيميه وغيرهم : أجمعوا على أن من ذرعه القيء فلا قضاء عليه وأن من استقاء عمداً أن عليه القضاء . والله أعلم .
ومنها : الاستمناء إما بمداعبة أو بمباشرة أو باليد أو بتعمد النظر لما يهيج الشهوة أو بالتفكير المقدور على قطعه ، فإذا نزل المني بالاختيار فإنه يكون مفسداً للصوم ودليل ذلك حديث ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )(3) وهو مذهب جمهور أهل العلم ، ولأن الإنزال بالاختيار كالجماع لأنه إنزال بمباشرة ، واختاره أبو العباس شيخ الإسلام – رحمه الله – تعالى وقالت عائشة أم المؤمنين – رضي الله عنها – ( كان النبي  يقبل وهو صائم ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه )(1). فعلمنا بذلك أن المراد بقوله ( وشهوته ) أي الجماع والإنزال ولو بدون جماع ، وأما مقدمات الجماع من مباشرة وتقبيل فلا بأس بها إن لم يترتب عليها ما يفسد الصوم من الإنزال وهذا مرجعه غلبة الظن وسيأتي للمسألة زيادة بحث إن شاء الله .
ومنها : الحجامة ، وهي شرط ظاهر الجلد لاستخراج الدم الفاسد فإنه قد ثبت الدليل بأنها مفطرة وهو حديث شداد بن أوس مرفوعاً : ( أفطر الحاجم والمحجوم )(2) وصححه ابن خزيمة وغيره وقال الإمام أحمد والبخاري : إنه أصح شيء في الباب ، قال أبو العباس قدس الله روحه : والأحاديث الواردة عن النبي  في قوله ( أفطر الحاجم والمحجوم ) كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ ، والقول بأن الحجامة تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم وأهل الحديث الفقهاء فيه الحاملون به أخص الناس باتباع محمد  والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما ثبت في الصحيح ( أن النبي  احتجم وهو محرم صائم )(3) . وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة وهي قوله ( وهو صائم ) وقالوا : الثابت أنه احتجم وهو محرم ، قال أحمد : قال يحي بن سعيد : قال شعبة : لم يسمع الحكم حديث مقسم في الحجامة للصائم ، يعني حديث شعبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس ( أن النبي  احتجم وهو صائم محرم ) . قال مهنا : سألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد عن ميمون ابن مهران عن ابن عباس ( أن النبي  احتجم وهو صائم محرم ) : سمعت أبا عبدالله رد هذا الحديث وضعفه ، وقال : كانت كتب الأنصاري قد ذهبت في أيام المنتصر فكان بعد يحدث من كتب غلامه وكان هذا – أي الزيادة – من تلك – أي بسبب ذلك إلى أن قال أبو العباس قدس الله روحه : وهذا الذي ذكره الإمام أحمد هو الذي اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم ولهذا أعرض مسلم عن الحديث الذي ذكر حجامة الصائم ولم يثبت إلا حجامة المحرم إهـ كلام أبي العباس – رحمه الله – تعالى قلت: ويؤيده أيضاً ما رواه الإمام أحمد في المسند من حديث ثوبان أن رسول الله  أتى على رجل وهو يحتجم في رمضان فقال : ( أفطر الحاجم والمحجوم )(1) قال الترمذي من حديث حسن صحيح وصححه ابن المديني والإمام الدارمي على الجميع – رحمة الله – تعالى فهذه الأدلة تفيد بمجموعها أن الحجامة من مفسدات الصوم وهو اختيار أبي العباس النحرير الهزبر فارس المنقول والمعقول وجزاه الله خير ما جزى عالماً عن أمته ، وقد بين قدس الله روحه وجعل جنة الفردوس نزله العلة في إفطار الحاجم والمحجوم فقال : وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس ، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة وبالاستمناء ، وإذا كان ذلك كذلك فبأي وجه أراد إخراج الدم أفطر ، كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر سواء جذب القيء بإدخال يده أو بشم ما يقيئه أو ضع يده تحت بطنه واستخرج القيء فتلك طرق لاستخراج القيء وهذه – أي الحجامة والفصاد – طرق لإخراج الدم إلى أن قال : وأما الحاجم فإنه يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه والهواء يجتذب ما فيها من الدم فربما صعد مع الهواء شيء من الدم فدخل حلقه وهو لا يشعر والحكمة إذا كانت خفية أو مستترة علق الحكم بالمظنة كما أن النائم الذي تخرج منه الريح ولا يدري يؤمر بالوضوء فكذلك الحاجم يدخل شيء من الدم مع ريقه إلى بطنه وهو لا يدري ، وأما الشارط فليس بحاجم وهذا المعنى متفق فيه فلا يفطر الشارط وكذلك لو قدر حاجم لا يمص القارورة بل يمتص غيرها أو يأخذ الدم بطريق آخر لم يفطروا لأن النبي  خرج كلامه على الحاجم المعروف المعتاد إهـ كلامه – رحمه الله – فهذا يبين لك أن القول الراجح إن شاء الله تعالى في هذه المسألة هو القول الذي اختاره أبو العباس - رحمه الله –والله أعلم.
ومنها : دم الحيض والنفاس فإنه مفسد للصوم بالإجماع ، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي  قال : ما رأيت من ناقصات عقلٍ دين ، وفيه : (أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم ، قلن : بلى ، قال : فذلك نقصان دينها )(1) الحديث .
ومنها : الردة عن الإسلام والعياذ بالله تعالى ، لأن الصوم عبادة ومن شرط صحتها الإسلام والردة قاطعة لهذا الشرط فعاد النهي إلى فقدان شرط الصحة وقد تقرر في القواعد أن النهي إذا عاد إلى ذات المنهي عنه أو شرط صحته دل على فساده فصوم المرتد فاسد ، ولأن من شروط صحته أيضاً استمرار حكم النية بأن لا ينوي قطعها والردة قاطعة لحكم النية لتخلف المصحح له وهو الإسلام ، ولقوله تعالى : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) قال الموفق : لا نعلم فيه خلافاً والله أعلم .
فهذه الأشياء المذكورة هي التي دل الدليل الشرعي الصحيح الصريح على أنها مفسدة للصوم ، ويبقى ما عداها موقوفاً على الدليل فإن صح به الدليل قبلناه وإن لم يصح به الدليل لم نقبله لأن مفسدات الصوم توقيفية . ومن هذا الضابط نعرف حكم المذي هل هو من جملة المفسدات أو لا ؟ أقول : الأصل أنه ليس من المفسدات ومن قال بأنه مفسد فعليه الدليل لأن مفسدات الصوم توقيفية ، والقول بأنه من جملة مفسدات الصيام هو المعتمد أساسه الشهوة فهو كالمني ، وعنه : ليس المذي من جملة المفسدات وهو مذهب الحنفية والشافعية ، بل هي مذهب الجمهور واختارها من أصحابنا الآجري وأبو محمد موفق الدين بن قدامة والشيخ تقي الدين أبو العباس وصوبها في الإنصاف واستظهرها ابن مفلح في الفروع ، وهي الرواية الراجحة إن شاء الله تعالى وذلك عملاً بالأصل ، وقياسه على المني قياس مع الفارق فإنه يفارق المني في تركيبه ومخرجه وأثره فيفارقه في حكمه لأن القياس مع الفارق باطل ، قال أبو العباس قدس الله روحه : ولا يفطر بمذي بسبب قبلة أو لمس أو تكرار نظر إهـ وفي الصحيحين من حديث عائشة ( أن النبي  كان يباشر وهو صائم ويقبل وهو صائم ولكنه كان أملككم لأربه )(1) والمباشرة هي المس باليد ولما سئل عن القبلة قال : ( أرأيت لو تمضمضت بالماء )(2) ولمس اليد والقبلة هي مقدمات الجماع ومفتاحه كما أن المضمضة هي مقدمه الشرب ومفتاحه فكما أن المضمضة لا تنقض مع أنها مقدمة الشرب ومفتاحه فكذلك المس باليد والقبلة لا تبطل الصوم مع أنها مقدمة الجماع ومفتاحه ولم يسأل النبي  السائل هل أمذى أو لا ؟ وقد تقرر في القواعد أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال منـزل منـزلة العموم في المقال ، ولأن الأصل عدم الإبطال إلا بدليل ولم يأت دليل يفيد بطلان الصوم بمجرد خروج المذي ومن ذلك أيضاً أنه لا يفسد الصوم بالغيبة وقول الزور والعمل به والجهل وإنما هو منقص لأجر الصائم بل قد يذهبه بالكلية مع سقوط الفرض عنه ، وهذا هو المراد بقوله  : ( من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )(1) والله أعلم . وسوف يأتي إن شاء الله تعالى في الضابط الذي بعد هذا بقية الفروع المخرجة على هذا الضابط ولكن لارتباطها بالذي بعده أخرت البحث فيها إلى الكلام عليه . والله أعـلم .

محب الدعوة
08-06-2010, 03:02 PM
الضابط الثالث
يغلب جانب المنفذ المعتاد ويغلب جانب التغذية في غيره

أقول : اعلم أرشدك لطاعته ووفقنا وإياك لسلوك سبيل مرضاته أن للإنسان جوفين : جوف البطن وجوف الدماغ ولكل جوف منفذان ، منفذ معتاد تصل الأشياء إلى هذا الجوف من طريقة ومنفذ غير معتاد فالمنفذ المعتاد للبطن هو الفم ، فالأشياء تصل عادة إلى جوف البطن من الفم ، والمنفذ المعتاد للدماغ هو الأنف فالأشياء تصل عادة إلى الدماغ من الأنف فهذان المنفذان معتادان ، وأما المنافذ التي ليست بمعتادة فكالعين والأذن والعروق والدبر ونحوها فإن منافذ لأحد الجوفين لكنها ليست بمعتادة ، إذا علمت هذا فأقول : إذا وصل شيء إلى الجوف فانظر : هل وصله من منفذه المعتاد أم من منفذه غير معتاد ، فإن وصله من منفذه المعتاد فإنه يكون مفسداً للصوم من غير فرق بين أن يكون مغذياً أو غير مغذِ لأن المعتمد حينئذ جانب المنفذ لمعتاده وهذا هو معنى قولنا ( يغلب جانب المنفذ المعتاد ) أي أن ما وصل إلى الجوف من منفذه المعتاد يكون مبطلاً للصوم تغليباً لجانب المنفذ المعتاد ، وأما إذا وصل إلى الجوف شيء من غير المنافذ المعتادة فإننا حينئذ ننظر إلى هذا الشيء الواصل هل هو مغذِ يقوم مقام الأكل والشرب أم لا ؟ فإن كان مغذيا فإنه يكون مفسداً للصوم لأنه في معنى الأكل والشرب ويحمل العلة التي يحملها الأكل والشرب ، وأما إن لم يكن هذا الشيء مغذياً فإنه حينئذ لا أثر له في الإبطال لأنه ليس أكلاً أو شرباً ولا في معناهما ، هذا ما تحرر عندي في شرح هذا الضابط وهو ضابط لا ينخرم أبداً ولله الحمد والمنة ، وإليك الفروع المخرجة عليه حتى ترى كيف يعرف حكمها بإنزالها عليه فأقول :-
منها : قطرة الفم ، ما الحكم إذا قطر الصائم في فمه من قطرة الفم ؟ أقول : الجواب يعرف من هذا الضابط وهو أن قطرة الفم تدخل معه وهو منفذ معتاد للجوف فإذا قطر الصائم في فمه ووجد طعمها في جوفه فإنه صومه يفسد ، فإن قلت : هي ليست بمغذية ، أقول : نعم هي ليست كذلك لكننا غلبنا المنفذ فهي في معنى الشرب تغليباً لجانب المنفذ ، وقد قررنا سابقاً أن ما دخل من منفذ معتاد فإننا لا نفرق فيه بين كونه مغذياً أولاً ، وإنما الاعتبار حينئذ جانب المنفذ المعتاد وعليه الفتوى في البلاد السعودية زادها الله شرفاً ورفعة.
ومنها : قطرة العين فإذا قطر الصائم في عينه وأحسن بمرارتها في جوفه فنحن نجزم يقينا أنها قد وصلت للجوف فهل تكون مفسدة للصوم ؟ أقول : الجواب يعرف من هذا الضابط وهو أن العين ليست بمنفذ معتاد للجوف وحينئذ نفرق بين المغذي من غيره ومن المعلوم لدى الجميع أن قطرة العين ليست بمغذية فليست هي أكلاً وشرباً ولا في معناهما فلا تكون مفسدة للصوم والله أعلم .
ومنها : قطرة الأذن يقال فيها ما يقال في قطرة العين ، فمن قطر في أذنه وأحس بطعمها في حلقة فإنه لا يؤثر في صومه لأنه دخلت للجوف من منفذ غير معتاد فإنه لا يؤثر في صومه لأنها دخلت للجوف من منفذ غير معتاد وليست بمغذية ، والله أعلم .
ومنها : ما يعرف اليوم بالمنظار الطبي وهو شيء كالذي يدخل من فم المريض يصل إلى جوفه لنظر محل المرض ، فهل إذا استعمله الصائم يفسد صومه أم لا ؟ أقول : فيه خلاف بين أهل العلم المعاصرين فقيل يجوز وقيل لا والصواب إن شاء الله تعالى أنه لا يجوز استعماله إذا لم يكن ثمة ضرورة فمن استعمله فإن صومه يفسد لأنه دخل للجوف من منفذه المعتاد كل مطالباً ما يوضع عليه مادة تسهل دخوله كالدهن وربما كان المقصود منه غسيل الجوف أصلاً وكل ذلك مفسد للصوم .
ومنها : الحقن المغذية ، المعروفة عند العامة والخاصة وهي حقن تدخل مع الوريد فيستفيد منها الجسم ما يستفيده من الأكل والشرب بل بعض المرضى يعيش عليها أياماً كثيرة ، بل قد رأيت بعيني في بعض المستشفيات امرأة قد أغمي عليها بسبب حادث سيارة وماتت بعض خلايا المخ أكثر من سنتين وقد ازرقت أطرافها ولا تزال حية بسبب هذه الحقن المغذية ، فهل إذا استخدمها الصائم تكون مفسدة لصومه أولاً ؟ الجواب يعرف وحينئذ لا بد من التفريق بين المغذي من غيره ، وهذه الحقن في مقام الأكل والشرب لأنها تقوم مقامه فتكون حينئذ مفسدة للصوم لأننا قلنا في الضابط ( ويغلب جانب التغذية في غيره ) أي في غير المنفذ المعتاد نغلب جانب التغذية . والله أعلم .
ومنها : حقن الدم ، فإنه قد يحتاج الصائم إلى أن يضاف لدمه دم آخر فيقوم الطبيب بحقنه دما متوافقا مع دمه في الفصلين فإذا فعله الصائم اختياراً فما الحكم ؟ أقول : يفسد صومه ذلك لأن بدنه يتقوى بهذا الدم الزائد ، فهو وإن دخل للجوف من منفذ غير معتاد لكنه في معنى الأكل والشرب فيأخذ حكمها في إفساد الصوم والله أعلم .
ومنها : لو استدخل الصائم شيئا في دبره فأحس بطعمه في جوفه فإننا نقول : ليس الدبر هو المنفذ المعتاد للجوف وحينئذ نفرق بين المغذي وغيره وهذا الشيء الداخل من الدبر في الغالب أنه ليس بمغذ فلا يكون مفسداً للصوم لأنه دخل من منفذ غير معتاد وليس هو أكلاً أو شرباُ ولا في معناهما ولا يقوم مقامهما والله أعلم .
ومنها : حقن تخفيظ السكر المعروفة عن الأطباء هل يجوز للصائم أخذها في نهار رمضان ؟ أقول : توقفت كثيراً فيها جهلاً مني هل هي مغذية أم لا ثم سألت جمعاً من الأطباء الثقات فقالوا إنها ليست بمغذية فحيث قالوا ذلك فنقول لا بأس بها للصائم لأنه دخلت للجوف من منفذ معتاد وليست أكلاً وشرباً ولا في معناهما والله أعلم .
ومنها : لو أصابت الصائم في رأسه مأمومة أو جائفة فداواها بدواء تحلل فيها فوجد طعمه في حلقه فهل يكون ذلك مفسداً للصوم ؟ الجواب : لا ، لأنه دخل من منفذ غير معتاد وليس هو أكلاً أو شرباً ولا في معناهما واختاره أبو العباس ابن تيمية – رحمه الله رحمة واسعة – وذلك خلافاً للمذهب عند الأصحاب لكن الراجح إن شاء الله تعالى هو ما ذهب إليه أبو العباس وهو راوية في المذهب واختارها جمع من الأصحاب والله أعلم .
ومنها : العود الهندي وهو المعروف عندنا بالبخور أو الند ، فإنه إذا وضع على الجمر ثار منه دخان له رائحة زكية وهذا الدخان له جرم ، فما الحكم لو تعمد الصائم شمه حتى وجد طعمه في جوفه ؟ أقول : الحكم في ذلك فساد الصوم لأن هذا الدخان دخل للجوف من منفذ معتاد فيغلب جانب المنفذ ، فعلى الصائم حينئذ التوقي من مثل ذلك أما إذا لم يتعمد إدخال الدخان في حلقه فهذا سيأتي حكمه إن شاء الله تعالى في الضابط الذي بعد هذا والله أعلم .
ومنها : الدخان الذي عمت به البلوى في زماننا ، وهو المعروف بالسجائر أو التتن ، فإنه حرام بالنقل والعقل والحس والفطرة وقد ذكرت أدلة تحريمه في موضع آخر ، لكن هل هو مفسد للصوم إذا استعمله الصائم ؟ أقول : ندع الجواب لك والله ربنا أعلى وأعلم .
ومنها : إذا اشتهت الصائمة الحامل خرقة أو تراباً ، فإن الحامل في أشهرها الأولى تأتي بالعجائب فيما تشتهي ، وتعرف امرأة قد اشتهت أكل الطين وامرأة أخرى اشتهت أكل الصابون ، وامرأة أخرى قد اشتهت أكل معجون الأسنان ، ولا نقول ذلك الكلام سخرية بأخواتنا ، حاشا وكلا فإن هذا الأمر شيء كتبه الله على نساء بني آدام ، وإنما المراد التفريع الفقهي على هذا الضابط فهل إذا أكلته يفسد صومها أم لا ؟ الجواب : نعم بالطبع يفسد صومها لكن أقول : لماذا أفسد صومها مع أنه ليس بمغذي ؟ لا شك أن الجواب لأننا نغلب جانب المنفذ المعتاد والله أعلم .
ومنها : ما الحكم لو اكتحل الصائم في عينيه وأحس بطعمه في حلقه أقول : وصل الكحل إلى الجوف من منفذ غير معتاد وليس هو بمغذ فلا يكون مفسداً للصوم ، وهو اختيار أبي العباس بن تيمية – رحمه الله – تعالى خلافاً لما هو المشهور من المذهب ، وأما حديث الكحل ( ليتقه الصائم )(1) فإنه لم يثبت من طريق تقوم به الحجة وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها إلى الدليل الصحيح الصريح قال أبو العباس قدس الله روحه :
وأما حديث الكحل فضعيف(1) والله أعلم .
ومنها : لو وضع الصائم الحناء على قدميه وأحس بطعمها في حلقه فإنه لا شيء لأنه دخل من منفذ غير معتاد وليس بمغذ والله أعلم .

محب الدعوة
08-06-2010, 03:03 PM
الضابط الرابع
لا يؤثر مفسد الصوم إلا بذكر وعلمٍ وإرادة

أقول : أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شر أنفسنا وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، وأن يذيقنا وإياك لذة الحق قبولاً واتباعاً ثم اعلم رفع الله لك الدرجة وأعلا نزلك في الجنة أن الشريعة إما مأمور بفعله إيجاباً أو استحباباً ، وإما ما أمر بتركه تحريماً أو كراهة ، ونحن الآن في القسم الثاني وهو قسم المنهيات ونخص منها المنهيات تحريماً ، فأقول : لقد شرحنا في تلقيح الأفهام قاعدة : لا يؤثر فعل المنهي عنه إلا بذكر وعلم وإرادة ، وهذا الضابط متفرع عن تلك القاعدة ، وبيانه أن يقال : إن مفسدات الصوم التي تقدم الكلام عليها من أكل وشرب وجماع وحجامة واستمناء وردة والتقيؤ وغيرها مما ذكر ، هذه المفسدات لا يترتب عليها أثرها إلا إذا توفر في مرتكبها ثلاثة شروط ، بحث إذا اختل شرط فإنه يتخلف الأثر ، ونعني بالأثر هنا أموراً : إفساد الصوم والقضاء وإلا ثم والكفارة فيما تجب فيه الكفارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وهذه الشروط هي المذكورة في هذا الضابط ، وهي العلم والذكر والإرادة ، وإليك شيء من تفصيلها مع أدلتها وفروعها فأقول وبالله التوفيق :
الشرط الأول : العلم : وضده الجهل ، فلا تؤثر هذه المفسدات إلا إذا كان فعلها عالماً أنها مفسدة لصومه ، وبناءاً عليه فمن فعل شيئاً وهو جاهل بحكمه فإنه لا شيء عليه وصومه صحيح والدليل على ذلك جميع الآيات التي فيها أن الله لا يكلف نفساً إلى وسعها وإلا ما آتاها وأنه لم يحملنا جل وعلا ما لا طاقة لنا به ، وأنه يريد بنا اليسر ولا العسر والتخفيف لا الإثقال ، كل ذلك دليل على اشتراط العلم لثبوت التكليف لأن التكليف بما لا يعلم خارج عن وسع النفس وطاقتها وهو من العسر والإثقال والآصار والأغلال التي جاءت شريعتنا بوضعها ، ويدل عليه بخصوصه من السنة حديث عدي بن حاتم -  - لما نزل قوله تعالى: ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) قال: فعمدت إلى عقالين أبيض وأسود وجعلتهما تحت وسادتي فجعلت آكل حتى تبينا فإذا الصبح قد طلع ، فذكرت ذلك للنبي  ، فأخبره بالحق وأن المراد بذلك نور القمر وظلمة الليل )(1) ووجه الاستشهاد وأن النبي  لم يأمره بقضاء ذلك اليوم الذي أكل في نهاره مما يدل على أنه عذره وسبب العذر هو عدم العلم أي أن عدي بن حاتم -  - قد أكل وشرب وهو لا يعلم أنه بهذا الأكل والشرب يفسد صومه ظناً منه صواب نفسه ، مما يدل على أن عدم العلم بأنه مفسد عذر في عدم ترتب أثره من فساد الصوم أو الإثم والقضاء ، ولكن ينبغي أن تعلم أن قضية الجهل لا بدلها أن تضبط بضابط مهم وهو أن يكون مثله يجهل ، وقد قررنا سابقاً أن رفع الجهل عن نفسه وتكاسل في ذلك وفرط فإن جهل هذا ليس بعذر في ترك مأمور ولا فعل محظور وأما إن كان لا يستطيع رفع الجهل عن نفسه لعذر ما فهذا هو الذي كون جهله عذراً رافعاً للموآخذة ، وقد ذكرنا هذه المسألة بأوسع من هذا في كتاب المباحث الجلية في رد المسائل الخلافية للكتاب والسنة والله أعلم .
الشرط الثاني : الذكر وضده النسيان فلا تكون هذه الأشياء مفسدة للصوم إلا إذا فعلها الصائم وهو ذاكر لصومه ، ويدل على ذلك قوله تعالى : ( ربنا لا تؤآخذنا إن نسينا أو أخطأنا )(2) وفي صحيح مسلم قال الله ( قد فعلت ) ويدل عليها بخصوصها حديث أبي هريرة في الصحيح قال : قال رسول الله  : ( من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه )(3) وفي لفظ : ( من أكل أو شرب ناسياً فإنما هو رزق رزقـه الله )(4)
وللدارقطي معناه وزاد ( ولا قضاء )(1) وللحاكم في المستدرك مرفوعاً : ( من أكل في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة )(2) وقال : صحيح على شرط مسلم ، فدل ذلك على أنه لا أثر لذلك الأكل والشرب بالنسبة للصائم ويقاس عليه ما عداه لأنه في معناه ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله تعالى رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )(3) حديث إسناده حسن والله أعلم .
الشرط الثالث : الإرادة وضده الإكراه ، فلا يؤثر مفسد الصوم إلا إذا فعله الصائم مختاراً له مريداً لفعله وبناءاً عليه فمن فعل شيئاً من هذه المفسدات مكرهاً فإنه لا شيء عليه فلا إثم ولا قضاء ولا كفارة فيما تجب فيه الكفارة ودليل ذلك قوله تعالى : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) فإذا تجاوز الله تعالى من قول الكفر وفعله مكرهاً مع اطمئنان القلب مع عظمة وكبر شأنه فلأن يكون الإكراه عذراً في إسقاط اثر المفسد للصوم من باب أولى ، فهذا قياس أولوي وقد تقرر في الأصول أنه حجة ، ويدل عليه أيضا الحديث السابق فإن فيه ( وما استكرهوا عليه ) والله أعلم .
وخلاصة الكلام أن هذه المفسدات كلها لا يترتب أثر فعلها على الصائم إلا بتوفر ثلاثة شروط : العلم والذكر والإرادة ، ولا بد من تواجدها جميعاً بمعنى أنه إذا اختل شرط منها فإنه يتخلف الأثر ، فمن فعل المحظور عالماً ذاكراً لكن يجهل أنه مفسد فلا شيء لعيه ومن فعله عالماً مختاراً لكنه ناسِ فلا شيء عليه وهكذا ، إذا علمت هذا فإليك الفروع عليه حتى يتضح أكثر فأقول :
منها : احتجم الصائم ذاكراً مختاراً لكنه كان يجهل أن الحجامة من مفسدات الصوم فما الحكم ؟ أقول : إذا كان جاهلاً ومثله يجهل فإنه لا شيء عليه لأنه لا يؤثر مفسد الصوم إلا بالعلم والله أعلم .
ومنها : جامع الصائم في نهار رمضان مريداً عالماً بحرمة الجماع لكنه كان ناسباً أنه صائم وهذا يحصل أحياناً في أوائل أيام الصيام أفي صوم القضاء ، أو غير ذلك ، فالنسيان طبع الإنسان فمن جامع ناسياً أنه صائم فلا إثم عليه ولا قضاء ولا كفارة لأن مفسد الصوم لا يؤثر إلا بذكر ، وهذا الفرع قد يكون ثقيلاً على بعض النفوس لكن لا شأن لنا بها فالحق أحق أن يتبع والله أعلم .
ومنها : لو قيد الصائم ثم أدخل الماء في فمه فشربه إكراهاً فما حكم صومه ؟ الجواب : أن صومه صحيح ولله الحمد تقبل الله منا ومنه ، ولا أثر لهذه الشربة لأنها حصلت بغير اختياره ، ولا يؤثر مفسد الصوم إلا إذا فعله بإرادته واختياره والله أعلم .
ومنها : لو تمضمض الصائم ثم سبق إلى جوفه شيء من الماء فلا قصد فلا شيء عليه لأنه ليس بمر بيد له ولم يتعمدها قلبه وقد قال تعالى : ( وليس عليكم فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ) ولكن أقول قرر أهل العلم أن المبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً . والله ربنا أعلى وأعلم .
ومنها : لو طار ذباب إلى حلقه فابتلعه فلا قصد فنقول له : هنيئاً مريئاً لا شيء عليه صومك صحيح لأنه دخل في فيك إلى جوفك فلا إرادة منك وقد تقرر أنه لا يؤثر مفسد الصوم إلا بإرادة ولكن نوصي أخانا هذا أن يحاول إغلاق فمه ما استطاع وخصوصاً في نهار الصوم والله أعلم .
ومنها : لو أصيب الصائم برعاف كثير ونزف دمه فما حكم صومه ؟ نقول : لا شيء عليه فإن خروج الدم هذا ليس له فيه اختيار ولا إرادة لكن عليه أن يحاول إيقافه ما استطاع أو مراجعة أقرب مستشفى لأخذ العلاج اللازم شفاه الله وعافاه ولا بأس إن شاء الله كفارة وطهور والله أعلم .
ومنها : لو احتلم الصائم فما حكم صومه ؟ أقول : صحيح بالإجماع لأنه لا اختيار له في إخراج المني وقد تقرر أن مفسدات الصوم لا تؤثر إلا بذكر وعلم وإرادة والله أعلم . وعلى ذلك فقس لكن بقي عندنا إشكال قد يثور في ذهن البعض وهو قولهم : إن الأدلة دلت على أن نزول دم الحيض والنفاس من جملة مفسدات الصوم : أليس كذلك قلنا : نعم وما ذكاك؟ قالوا : إن العادة أن نزول دم الحيض والنفاس يحصل بلا إرادة ، للصائمة فتخلف شرط الإرادة وقد قررت أنه لا يؤثر مفسد الصوم إلا بذكر وعلم وإرادة فكان ينبغي أن يكون دم الحيض والنفاس ليس بمفسد للصوم لتخلف شرط الإرادة ؟ فكيف جعلتموه مفسدا مع تخلف هذا الشرط ، فأنتم بين أمرين : إما أن تكون قاعدتكم هذه منقوصة بنزول دم الحيض والنفاس وإما أن يكون نزول دم الحيض والنفاس ليس بمفسد للصوم وتكونون بهذا قد خالفتم الإجماع فما جوابكم ؟ قلنا : نظن والله أعلم أن صاحب هذا الإشكال بارك الله فيه لا يفرق بين ما كان من قبيل الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية ، وبيان ذلك أن يقال : إن الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين ، حكم تكليفي وهي الوجوب والندب الحرمة والكراهة والإباحة وحكم وضعي وهو السبب والشرط والصحة والفساد المانع ، فالحيض والنفاس بالنسبة للصوم ليس هو من قبيل الأحكام التكليفية التي نهيت الصائمة عنها حتى إذا حصلت نظرنا في شروط إفسادها للصيام ، وإنما هي من قبيل الأحكام الوضعية فالله تعالى جعل نزول الحيض والنفاس علامة مانعة من الصيام والصلاة ووطء زوجها له ودخول المسجد وقراءة القرآن على قول من يمنعها من قراءة القرآن ، فهذا إشكال ليس بوارد أصلاً وأزيدك بياناً وأقول : الصائم والصائمة ممنوعان من الأكل والشرب وممنوعان من الجماع في نهار رمضان وممنوعان من الاستمناء وممنوعان الحجامة ، لكن هل الصائمة ممنوعة من نزول الحيض والنفاس بالطبع لأن تلك الأشياء الأولى داخلة تحت القدرة وأمرنا بتركها فهي حكم تكليف ، وأما نزول دم الحيض والنفاس ليس بداخل تحت القدرة بل ولو كان داخلاً فإن المرأة لم تؤمر بتحصيله ولا بتركه لأنه من الأحكام الوضعية ونحن نتكلم عن الأحكام التكليفية ولعلك بهذا فهمت المراد بقولنا في الضابط ( تكليفنا ) أي أننا نبحث في شروط مفسدات الصوم التي هي من قبيل الأحكام التكليفية لا الوضعية ولعل الضابط بهذا قد بانت معالمه واتضحت مراسمه والله يعفو عن الزلل والخطأ والتقصير فهو حسبنا ونعم الوكيل وهو أعلى وأعلم .

محب الدعوة
08-06-2010, 03:05 PM
الضابط الخامس
الأصل عدم الكفارة في مفسدات الصوم إلا بدليل

أقول : لقد تقر في القواعد أن الأصل براءة الذمة من كل الحقوق والأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل ، وتقرر أيضاً أنه لا يجوز إثبات شيء من الأحكام الشرعية إلا بدليل صحيح صريح ومن ذلك أنه لا يجوز إلزام أحد بالكفارة على فعل شيء من المحرمات وعلى ذلك دليل شرعي صحيح إذا نقرر هنا فعلم أن سائر المفسدات التي يقدم الكلام عليها ودلت الأدلة على أنها مفسدة للصوم ليس في شيء منها ذكر الكفارة إلا في مفسد واحد فقط وهو الجماع لا غير فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة :( (أن رجلا جاء إلى النبي  فقال : يا رسول الله هلكت . قال : وما أهلكك ، قال : وقعت على أهلي وأنا صائم ، قال : هل تجد رقبة تعتقها قال : لا ، قال : هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين . قال : لا ، قال : هل تستطيع أن تطعم ستين مسكيناً قال : لا ، فجلس فأتى النبي  بعرق من تمر فقال : أين السآئل ، قال : ها أناذا يا رسول الله ، فقال خذ هذا فتصدق به ، قال : أعلى أفقر مني يا رسول الله فوالله ما بين لا بتيها أهل بيت أفقر مني ، فضحك النبي  وقال : أطعمه أهلك )(1) ففي هذا الحديث دل على وجوب الكفارة في هذا المفسد بعينه ويبقى ما عداه من المفسدات على الأصل وهو براءة الذمة فمن أوجب في شيء منها كفارة فأنه يطالب بالدليل المثبت لذلك وإلا فقوله مردود عليه وهذا هو الحق في هذه المسألة وإكمالاً لهذا الضابط إليك هذه المسائل المهمة التي كثر الخلاف فيها مع ردها إلى أدلتها وقواعدها فأقول :
منها : قد ثبت الدليل بلا وجوب الكفارة إلا على المجامع ، لكن ما علة وجوبها ؟ أقول : اختلف في ذلك فقيل العلة في وجوب الكفارة هو هتك حرمة اليوم عمداً ، وقاسوا على ذلك أن كل من هتك حرمة اليوم عمداً بأي مفسد كان فإن عليه الكفارة بجامع الهتك في كل ، وقيل : بل لا تجب الكفارة في غير الجماع إلا على من أكل أو شرب متعمداً لأنه هتك حرمة اليوم بأعلى ما في الباب ، أي أن أعلى المفسدات الأكل والشرب ، فهي أعلى من الجماع فإذا وجبت الكفارة في الجماع عمداً فيجب في الأكل والشرب عمداً من باب أولى ، وقال أكثر أهل العلم إن الكفارة لا تجب إلا في الجماع فقط ذلك لأن الأصل عدم الكفارة في مفسد الصوم إلا بدليل ولم يأت الدليل في وجوب الكافرة في مفسد الصوم إلا على المجامع فقط ، والعلة الصحيحة في وجوبها هي أنه جماع في نهار رمضان وبيان ذلك أنه قال – أي الأعرابي – يا رسول الله وقعت على أهلي في رمضان وأنا صائم ، فقال هل تجد كذا هل تجد كذا .. ، فرتب الكفارة على وصف ، مما يدل على أن علة الكفارة هو الوصف المتقدم والوصف المتقدم هو قوله : ( وقعت على أهلي في رمضان ) فعلمنا بذلك أن العلة الصحيحة هي الوطء في نهار رمضان ، فالنبي  لم يرتب الكفارة على قوله : ( هلكت وأهلكت ) حتى تكون العلة في الكفارة هتك حرمة الشهر فقط ، ولكنه استفسر عن سبب الهلاك فلما أخبره بأنه وقع على أهله في رمضان وهو صائم رتب عليه الصلاة والسلام الكفارة على ذلك ، فدل ذلك على أن هذا هو العلة الصحيحة ، وحينئذ نقول : هي من نوع العلة القاصرة التي لا تتعدى محلها فلا يقاس عليها غيرها والله ربنا أعلى وأعلم .
ومن المسائل أيضا : ما هو الواجب على من جامع في نهار رمضان ؟ أقول : الواجب على من جامع في نهار رمضان ما يلي : الأول : التوبة من الإثم الحاصل ، الثاني : فساد صومه في هذا اليوم لارتكابه مفسداً من مفسدات الصوم ، الثالث : وجوب الإمساك بقية اليوم وسيأتي ذلك في ضابط مستقل إن شاء الله تعالى ، الرابع : الكفارة المغلظة وهي على الترتيب عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً فإذا تعذر الأول صار إلى الثاني وإذا تعذر الثاني صار إلى الثالث لكن هل يجب عليه قضاء ذلك اليوم أم لا ؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد فقيل : يقضي لأنه ورد زياردة في حديث أبي هريرة : ( وصم يوماً مكانه ) فقال أبو داود وفي سنته : حدثنا جعفر بن مسافر قال حدثنا ابن أبي فديك قال حدثنا هشام بن سعد عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال :( جاء رجل أن النبي  أفطر في رمضان – بهذا الحديث – قال : فأتي بعرق فيه تمر قدر خمسة عشر صاعاً وقال فيه : ( كله أنت وأهل بيتك وصم يوماً واستغفر الله )(1) وصححه الألباني – رحمه الله – تعالى وقال ابن ماجة – رحمه الله – : حدثنا حرملة بن يحيى قال حدثنا عبدالله بن وهب قال حدثنا عبدالجبار بن عمر قال حدثني يحي بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول الله  - الحديث – وفيه : (وصم يوماً مكانه )(2) وقيل : لا يقضي واستدلوا على ذلك بأن الثالث في الصحيحين من حديث أبي هريرة إنما هو الكفارة فقط وليس فيها الأمر بالقضاء ، وإنما ورد القضاء في زيادات ضعيفة وما سلم منها فهو شاذ لمخالفته لرواية الثقات ، اختار هذا القول أبو العباس بن تيمية – رحمه الله – : فإنه قال : وقد ثبت هذا الحديث من غير وجه في الصحيحين من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة ولم يذكر أحد أمره بالقضاء ولو كان أمره بذلك لما أهمله هؤلاء كلهم وهو حكم شرعي يجب بيانه ولما لم يأمر به دل على أن القضاء لم يبق مقبولاً منه وهذا يدل على أنه كان متعمداً للفطر لم يكن ناسياً ولا جاهلاً إهـ كلامه .
قلت : أما سند ابن ماجة ففيه عبدالجبار بن عمر وهو ضعيف الحديث فقد ضعفه يحيى بن معين والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني وغيرهم ، أفاده البوصيري في الزوائد ، فهذه الزيادة ( وصم يوماً مكانه ) زيادة ضعيفة وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى والله ربنا أعلى وأعلم .
ومن المسائل أيضاً : هل على المرأة كفارة كما على الرجل أم لا ؟ أقول : هذا من مواطن الإشكال عندي وذلك لأنه يتجاذبه عدة أصول :
الأول : تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز والنبي  إنما ذكر الكفارة على الزوج مع علمه أن المرأة وقع عليها ذلك لأن الأعرابي قال : ( وقعت على أهلي )(1) فبين النبي  ما يجب عليه من الكفارة وسكت عن المرأة فسكوته هذا يدل على أنه لا كفارة عليها إذا لو كان يجب عليها كفارة لبين ذلك فلما لم يبين ذلك مع أنه وقت الحاجة علمنا أن ذمتها بريئة من الكفارة لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، فهذا الأصل يفيد أنه لا كفارة عليها ،
الثاني : كل حكم ثبت في حق الرجال فهو ثابت في حق النساء إلا بدليل والعكس بالعكس ، وهذه الكفارة ثبتت في حق الرجل فكان مقتضى هذه القاعدة أن تثبت أيضاً في حق الزوجة ، وهذا الأصل يقضي أن عليها الكفارة كما على الرجل سواءاً بسواء ،
الثالث : الشريعة لا تفرق بين متماثلين ولا تجمع بين مختلفين وقد تقرر لنا سابقاً أن العلة في وجوب الكفارة هي الوطء في نهار رمضان، فالكفارة وجبت على الزوج لأنه جامع في نهار رمضان ، والمرأة تتحقق فيها هذه العلة فإنه أيضاً قد حصل منها الجماع في نهار رمضان ، ومع اتفاق العلة فلا بد من الإلحاق ، فهي إذا مثله في العلة والشريعة لا تفرق بين متماثلين وهذا الأصل يقضي بأن عليها الكفارة كما هي على الرجل ، الرابع : الأخذ بالأحوط فإن هذا الأصل أيضاً يقضي بأن عليها الكفارة ذلك لأنه إن كفرت فإنه لا أحد ينكر عليها فإن كانت في علم أنه واجبة عليها فقد كانت به وإلا فهي من جملة الصدقات المستحبة التي تثاب عليها ، لكن لولم تكفر لأنكر عليها القائلون بوجوب الكفارة عليها وقد تقرر أن فعل ما اتفق عليه العلماء أولى من فعل ما انفرد به أحدهما ما أمكن . الخامس : أنه قد تقرر في الضوابط أن الأصل عدم الكفارة إلا بدليل لأن الأصل براءة الذمة ، فمن عمر الذمة بالكفارة فليأت بالدليل ، وقد عمرنا ذمة الرجل بالكفارة بالدليل ، ولكن أني الدليل الذي يعمر ذمة المرأة بالكفارة فحيث فالأصل عدم الكفارة كما تقرر لنا في هذا الضابط . وهذا القول رواية في مذهب الإمام أحمد ، والرواية الثانية وهي المشهورة في المذهب أن عليها الكفارة إن كانت عامدة عالمة مطاوعة ، وهو مذهب الجمهور ، والأقرب عندي والله تعالى أعلى وأعلم أن عليها الكفارة إن كانت مطاوعة عالمة عامدة ، وذلك للاتفاق في العلة أعني لأنها هتكت حرمة رمضان بالجماع مطاوعة ، فهي كالرجل ، ولأن سكوته  عن إيجاب الكفارة عليها ترد عليه احتمالات كثيرة ، منها : أنه لم تسأل ولم تعترف هي ، ومنها : أنها لم تكن صائمة لعذر من الأعذار، ومنها : أن النبي  اكتفى ببيان الحكم للرجل لعلمه اشتراك المرأة معه في الحكم ، فالتنصيص على الحكم في بعض المكلفين كافً في ذكره في حق الباقين ، وقد تقرر في القواعد أن حكمه  لواحد حكم للأمة مالم يرد دليل التخصيص وما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء إلا بدليل ومنها : يتحمل أن يكون سبب السكوت عن حكم المرأة ما عرفه من كلام زوجها بأنه لا قدرة لها على شيء وأنه كانت مكرهة ، ويدل لهذا ما روي في بعض طرق هذا الحديث أن الرجل قال : ( هلكت وأهلكت )(1) لكنها زيادة ضعيفة فهذه الاحتمالات تحوم حول سكوته  عن بيان حكم المرأة فلا يستدل به لأنه قد تقرر في الأصول أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ، ويبقى عندنا الاشتراك في الحكم بين الرجال والنساء سليماً من المعارضة ، ولأن هذا القول هو الأحوط والله ربنا أعلى وأعلم .
ومن المسائل أيضاً : ما الحكم إذا تكرر الجماع فهل تتكرر الكفارات أم لا ؟ أقول : هذا فيه تفصيل : إما أن يكرره في يوم واحد وإما أن يكرره في أيام متعددة ، فإن كرره في يوم واحد مرتين أو أكثر فلا يخلو إما أن يكفر عن الجماع الأول وإما لا ، فإن لم يكفر عن الجماع الأول فإنه يجزئ عن الجميع كفارة واحدة وذلك لأنه قد تقرر في القواعد أن من كرر محظوراً من جنس واحد وموجبه واحد . قال ابن قدامة والشارح : بعير خلاف . وأما إذا جامع ثم كفر ثم جامع مرة أخرى فهل يلزمه للجماع الثاني كفارة جديدة أقول : هذا فيه خلاف العلماء فقيل : نعم لأنه استحلال لحرمة رمضان بلا مسوغ شرعي وتكفيره الأول لا يحل هذا اليوم له بل يلزمه الإمساك فإذا جامع ثانياً فإنه يكون قد وطئ في نهار رمضان مع لزوم الإمساك عليه فتلزمه كفارة ثانية وهذا هو المشهور من المذهب ، ونص عليه الإمام أحمد في رواية ابنه حنبل والرواية الثانية لا كفارة عليه عن الجماع الثاني وهو قول الجمهور ، وقال الوزير : أجمعوا أنه إذا وطئ وكفر ثم عاد فوطئ ثانياً في يومه ذلك أنه لا يجب عليه كفارة ثانية . إهـ قلت : وهذا القول هو الأسعد بالدليل إن شاء الله تعالى وذلك لأن الكفارة الأولى وجبت لانتهاك حرمة الصوم الصحيح بالجماع وأما الجماع الثاني فإنه لم يصادف صوماً صحيحاً حتى يفسده وتلزم بإفساده كفارة ، وإنما عليه الإثم لأنه يلزمه الإمساك لكنه إمساك لا يجزئ عن صوم فهو شرعاً ليس بصائم فلو كرر الجماع ثانياً فإنه لا يصادف صوماً صحيحاً وإنما يوافق صوماً فاسداً فلا يترتب عليه إلا الإثم فقط لإخلاله بوجوب الإمساك والله أعلم . وإما إذا تكرر الجماع في يومين مختلفين أو أكثر فإنه يلزم لكل يوم كفارة ، لأن كل يوم عبادة مستقلة له حرمة جديدة غير حرمة اليوم الذي قبله ، بدليل أن فساد بعضه لا يسري على عامته كالصلاة ، بل كل يوم له حكمه ، وهو مذهب الجمهور من الحنابلة والمالكية والشافعية ، فلو جامع في يومين لزمه كفارتان ، ولو جامع في عشرة أيام لزمه عشر كفارات وهكذا فاللهم إنا نعوذ بك من كل سوء وبلاء ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو أعلى وأعلم .
فإن قلت : ما الحكم لو جامع عشرين مرة في عشرين يوماً ولم يخرج كفارة عن الأيام الأولى فهل يجزئ عن الجميع كفارة واحدة أم يلزم كل يوم كفارة فأقول : أيها الأخ الحبيب نصيحتي لك إذا دخل عليك الشهر أن تعتزل امرأتك اعتزالاً كلياً فلا ترك ولا تراها ، فإنك وبال عليها وهي وبالاً عليك ، فاذهب بها إلى بيت أهلها واجلس أنت في بيت أهلك وإياك ثم إياك أن يحصل بينكما اتصال إلا في ليلة الصيام والسلام ثم أقول : عليك عشرون كفارة لأنك أفسدت عشرين يوماً كل يوم هو في نفسه عبادة مستقلة عن اليوم الذي قبله واليوم الذي بعده ، حتى وإن لم تخرج كفارات الأيام الأولى ، ولذلك فأقول : اعتق عشرين رقبة ، فإن لم تستطع فصم ألفاً وعشرين يوماً أي لكل يوم شهرين متتابعين ، ولا يلزم اتصال كفارات الأيام إذا كنت ستكفر بالصيام ، فصم شهرين متتابعين عن اليوم الأول ، ثم إن شئت أن تصلها بكفارة اليوم الثاني فلك ذلك وإن شئت أن تفصل فلك ذلك ، فإن لم تستطع فأطعم ستين مسكيناً عن كل يوم أفسدته ، فكأني بك تقول : ما هذا ؟ فأقول : نعم هو كذا وإلا فأمسك نفسك واحفظ صومك عن ما يفسده عصمنا الله وإياك من الزلل وهو أعلى وأعلم .

محب الدعوة
08-06-2010, 03:05 PM
ومن المسائل أيضا :نص علماؤنا – رحمهم الله – على أن من آخر قضاء رمضان إلى أن أدركه رمضان آخر بلا عذر لهذا التأخير أن عليه القضاء والكفارة فيطعم عن كل يوم مسكيناً واستدلوا على ذلك بأنه مذهب ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر ولا يعرف كلهم مخالف من الصحابة فكان إجماعاً وقولهم أحب إلينا من قول غيرهم فدليل الكفارة مذهب الصحابي والله أعلم .
ومن المسائل أيضاً : ما الحكم إذا طلع الفجر الثاني وهو لا يزال في جماعة ؟ أقول : لا شك أن يجب عليه النزع لكن هل تجب عليه كفارة بالنزع أم لا ؟ أقول : من عجائب المذهب أنهم قالوا نعم عليه كفارة بالنزع لأنه تحصل بن اللذة والحرارة الحاصلة بالجماع ، وهذا هو المشهور عندنا في المذهب والراوية الثانية : إنما يجب عليه قضاء ذلك اليوم لا تلزمه الكفارة والرواية الثالثة : لا يجب عليه القضاء ولا الكفارة وصومه صحيح لا غبار عليه تقبل الله منا ومنه ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وهو قول طوائف من السلف كسعيد بن جبير ومجاهد والحسن وإسحاق وداود وأصحابه واختباره الإمام الفحل التحرير فارس المنقول والمعقول أبو العباس بن تيمية – رحمه الله – وتلميذه الإمام الثاني ابن القيم الجوزية – رحم الله الجميع – وقال : وهو الأشبه بأصول الشريعة ودلالة الكتاب والسنة وهو قياس أصول أحمد وغيره إهـ وهو الأقرب إن شاء الله تعالى وذلك لأن نزعه هذا لا يريد به التلذذ وإنما يراد به التخلص ولا يتحقق التخلص إلا بالنزع وقد تقرر في القواعد أن مباشرة الحرام للتخلص منه جائز وإنما الحديث فيه ( وقعت على امرأتي ) و ( وطئت امرأتي ) و ( أصبت أهلي ) وهذه ألفاظ تغير وقوع الجماع المعهود ، وهذا نزع للتخلص ، ونقول أيضاً : إنه وإن سلمنا أن حركة النزع فيها مفسدة إلا أنها مغمورة في مصلحة إقلاعه وتخلصه من هذا المحرم ولا طريق له للتخلص إلا ذلك ، فلا اعتباره بهذه المفسدة اليسير ولا نرتب عليها حكماً، ولأنه لم يفرط بهذا الجماع لأنه أبتداه في وقت يحل له ابتداؤه فيه لقوله تعالى : ( فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) فأبان الله تعالى الأكل والشرب والجماع إلى هذا التبين ، ومن فعل ما أبيح له لم يكون مفرطاً ، ومن لم يفرط لا موآخذة عليه ، ثم نقول : أيها الأصحاب أعطونا حلاً لهذه المشكلة التي وقع فيها الرجل فإنه إن لم ينزع وجبت عليه الكفارة لأنه جماع في نهار رمضان باختيار ، وإذا نزع وجبت عليه الكفارة أيضاً لأنه يتلذذ بهذا النزع ، فبالله عليكم ما هو الحل في هذه المشكلة ؟ أقول : الحل فيها أن يؤمر بالنزع ولا شيء عليه والله أعلم .
ومن المسائل أيضاً : ما الحكم لو تساحقت امرأتان فأنزلتا فهل تلزمهما كفارة كالرجل مع زوجته أم لا ؟ أقول : وفيه خلاف بين العلماء على توليهما روايتان في مذهب الأصحاب – رحمهم الله – تعالى فقيل أن الإنزال بالمساحقة كالجماع ، فعليهما القضاء والكفارة ، والرواية الثانية : إنما عليهما الإثم والقضاء دون الكفارة لأن الأصل عدم الكفارة في مفسد الصوم إلا بدليل ولا دليل يدل على وجوبها بالمساحقة وإنما هي في الجماع الذي فيه إيلاج وهذا قول الجمهور ، وهذا القول هو الأقرب إن شاء الله تعالى لأن الحديث فيه ( وقعت ) و ( أتيت ) و ( وطئت ) و ( أصبت ) وهي ألفاظ تدل على حقيقة الجماع والمساحقة وأما القضاء فأقول : فإنه لا قضاء عليه ليس من باب إسقاط التخفيف وإنما من باب إسقاط الحرمان ، فإنه لا يجزئه عن ذلك اليوم شيء من الأيام لكن عليه التوبة والندم والعزم على عدم العودة والإكثار من الصوم في حديث القيء ( ومن استقاء عمداً فليقضي )(1) فأقول نعم هو كذلك لكن قوله عمداً منزل على الحاجة لأن الإنسان إنما يتقيأ لعذر كالمريض يتداوى بالقيء أو يتقيأ لأنه أكل ما فيه شبهة كما تقيأ أبو بكر الصديق -  - لما أكل من كسب المتكهن جاهلاً بحاله ، وإذا كان المتقيء معذوراً كان ما فعله جائزاً وصار من جملة المرض الذين يقضون ولم يكن من أهل الكبائر الذين أفطروا بغير عذر أفاد : شيخ الإسلام أبو العباس قدس الله روحه في عليين والله أعلـم .
ومن المسائل أيضاً : ذكر بعض أهل العلم – رحمهم الله – أن من سافر وجامع فلا شيء عليه ، وهو كلام صحيح لا شك فيه وذلك لأن صوم المسافر لا يلزم المضي فيه ، أي أن له قطعه ولا شيء عليه وإنما عليه القضاء فقط لقوله تعالى: ( فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر ) فأشبه التطوع بجامع عدم لزوم الزوجة المضي في كل إذا جامع في نهار رمضان وهو مسافر فإنه يكن قد استحل حرمة رمضان بمسوغ شرعي ومن استحل حرمة رمضان بمسوغ شرعي فلا شيء عليه إلا القضاء ، وقال البعض : بل الأفضل أن يفطر بغيره إذا أراد الفطر وجعلا الفطر بالجماع مكروها ، ولكنه قد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة والكراهة حكم شرعي فأين الدليل الدال على الكراهة ، فإنه لا دليل نعلمه يفيد الكراهة ولأنه قد تقرر في الضوابط أن من جازله الفطر في رمضان أفطر على ما شاء ، وهذا يفيد أن القول الصحيح أن من جامع مع من سفر فلا شيء عليه ولم يقع في أمر مكروه والله تعالى أعلم .
ومن المسائل أيضا : الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على ولديهما فإنهما يقضيان لكن هل يكفران أم لا ؟ فيه خلاف فقيل نعم ، وقيل لا ، والأصل عدم الكفارة في مفسدات الصوم إلا بدليل ولا أعلم دليلاً من القرآن ولا من السنة المرفوعة الصحيحة ثبتت الكفارة في حقهما ولكن ثبت ذلك عن ابن عباس وجمع من الصحابة ولا يعرف لهم مخالف وقد تقرر في الأصول أن مذهب الصحابي حجة بشرطه ، فنقول بما قاله ابن عباس والله أعلم .
ومن المسائل أيضا : إعلم أن المشهور من المذهب أن الكفارة في الجماع لازمة ولو وقع الجماع عن نسيان أو إكراه أو جهل واستدلوا على ذلك بأنه  لم يستفصل الأعرابي المجامع عن شيء فلم يقل له لعلك نسيت أولعلك كنت جاهلاً أو نحو ذلك ، فلم يستفصل منه وقد تقرر في القواعد أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال منزل منزلة العموم في المقال.
والرواية الثانية : أنه لا إثم عليه ولا قضاء ولا كفارة ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى واختاره الشيخ تقي الدين قدس الله روحه في الفردوس الأعلى . وذلك لأن قاعدة الشريعة العامة أنه لا يؤثر فعل المنهي عنه إلا بعلم وذكر وإرادة والنسيان متصور ، والجهل متصور وكذلك الإكراه متصور في حق الرجل وليس الانتشار دليلاً على وجود الإرادة فإنه يحصل في حال النوم حتى يحتلم النائم والإنسان لا يشعر به ولا يريده ، وقد يكون الإكراه على الجماع بالقتل بأن يقال : جامع زوجتك وإلا قتلناك هم قادرون على إنفاذ ما هددوا به وعلى كل حال فإنه قد ثبت بالكتاب والسنة أن من فعل محظوراً مخطئاً أو ناسياً أو مكرهاً أن الله لا يؤآخذه بذلك وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله فلا يكون عليه إثم ومن لا إثم عليه لا يكون عاصياً ولا مرتكباً لما نهي عنه ومثل هذا لا تبطل عبادته والله تعالى أعلى وأعلم .
ومن المسائل أيضاً : قرر بعض أهل العلم أن من قبّل فأنزل أو جامع دون الفرج فأنزل أن عليه الكفارة ، فأقول : قد تقرر أن الأصل عدم الكفارة في مفسد الصوم إلا بدليل وأين الدليل الدال على وجوب الكفارة في ذلك فحيث لا دليل فالأصل هو عدم الكفارة ، وهذا هو الأرجح وهو المشهور من المذهب والله أعلم .
ومن المسائل أيضاً : أن من أفطر أياماً من رمضان لعذر فإنه يقضيها في أيام أخر فما الحكم لو جامع في نهار القضاء فهل تلزمه الكفارة كالمجامع في نهار رمضان أم لا ؟ أقول فيه خلاف فقيل : نعم تلزمه الكفارة وقيل لا وهو الراجح وذلك لأن الأصل عدم الكفارة في مفسد الصوم إلا بدليل والدليل دل على وجوب الكفارة على المجامع في نهار رمضان لحرمة الشهر وذلك لأن المجامع قال : ( وقعت على أهلي في رمضان )(1) وغير رمضان لا يساويه في الحرمة فلا يشترك معه في الحكم وحينئذ فنقول : فسد صومه وعليه الإثم ولا يزال وجوب القضاء في ذمته ، أما فساد الصوم فلأنه أفسده بالجماع ، وأما الإثم فلأنه قطع الصوم الواجب بلا مسوغ شرعي وأما عدم براءة الذمة فلأنه لم يأتي بالصوم الصحيح الذي به تحصل براءة الذمة ومثال ذلك الجماع في صيام الكفارة أو النذر أيضاً لا كفارة في ذلك لأن الكفارة إنما كانت لأجل هتك حرمة شهر رمضان وغيره لايساوي وهذا هو المشهور من المذهب والله ربنا أعلى وأعلم . فهذه بعض المسائل على هذا الضابط المهم في كتاب الصيام عسى الله أن ينفعنا وإياك بها آمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

محب الدعوة
08-06-2010, 03:06 PM
الضابط السادس
من استحل حرمة رمضان بلا مسوغ شرعي لزمه إمساك بقية اليوم

هذا هو القول الفاصل إن شاء الله تعالى بين من يلزمه الإمساك مع فساد الصوم ومن لا يلزمه ذلك ، فأقول وبالله التوفيق :-
إعلم أن من أفطر في رمضان بأي مفطر من المفطرات السالفة الذكر أكلاً أو شرباً أو حجامة أو جماعاً ونحوها فلا يخلو من حالتين : إما أن يكون ذلك بالمسوغ الشرعي أي للعذر المعتبر شرعاً وإما لا ، فإن كان استحل حرمة رمضان بالعذر المعتبر فهذا إذا زال عذره ذلك فإنه يبقى على فطره ولا يلزمه الإمساك ذلك لأن حرمة هذا اليوم في حقه زالت لأنه استحلها بالعذر الشرعي ومن فعل ما يجوز له شرعاً فإنه لا ضمان الشرعي ذلك لأن الجواز الشرعي ينافي الضمان ، ولأن لزوم الإمساك مرة أخرى حكم شرعي يحتاج إلى دليل ، لأن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة ، ولا يقال يلزمه الإمساك لحرمة الوقت ، لأن الحرمة في حق ذلك الشخص المعين قد زالت بالمسوغ الشرعي وبقاء حرمة الزمن في حق غيره لا تتعدى إليه ، ولأن القول بالإمساك مع ذهاب حرمة الزمن في حقه وفساد صومه لا فائدة فيه ، إذ لا مصلحة يجتنى منه شرعا وما لا مصلحة فيه فإن الشريعة لا تأمر به ولا تأتي به ، ولا يقاس من ذهبت حرمة اليوم في حقه بالمسوغ الشرعي على من استحلها بلا مسوغ شرعي فإن هذا معاند ومتجانف ومستحق للعقوبة وحرمة الوقت باقية في حقه لم تنزل ، وأما الآخر فإنه فاعل لما يجوز له شرعاً مستحل للحرمة بالمسوغ المعتبر شرعاً غير متجانف للإثم ولا بمعاند ولا منتهك لحرمة الزمن فأين هذا من هذا ، فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس كما قال تعالى : ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ) وقال ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) وأين بالله عليك العلة التي بها يلحق الفرع بالأصل في القياس هذا فاسد لا عبرة به ، فالقول الصحيح إن شاء الله تعالى أن من استحل حرمة رمضان بالعذر المعتبر شرعاً فإنه لا يلزمه إمساك بقية اليوم ، وروي عن ابن مسعود أنه قال : من أفطر أول النهار أي بالمسوغ الشرعي فليفطر آخره . فهذا فيمن استحل حرمة الشهر بالمسوغ الشرعي ، وأما من استحلها بلا مسوغ شرعي وإنما هو الهوى وشهوة النفس وتسويل الشيطان فإنه آثم وصومه فاسد ومع ذلك فإنه لا يلزمه الإمساك ولا يحل له الاستمرار في الفطر ، ذلك لأن حرمة اليوم لا زالت قائمة في حقه فإنه انعقدت بالدليل فلا تحل إلا بدليل ، وإن استحلالها بلا عذر معتبر شرعاً من الاستخفاف بها وعدم تعظيمها وهذا مناف لتقوى القلوب وقال تعالى : ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنه من تقوى القلوب ) وقال تعالى : ( ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ) فنعوذ بالله من الاستخفاف بشعائره جل وعلا وحرماته وتعدي حدوده ، فهذا المستحل لحرمة اليوم بلا عذر لا حق له في هذا الاستحلال وإنما هو تعد منه وتجاوز لم أمر به وارتكاب وتقحم لما نهي عنه فليزمه حينئذ الإمساك بقية اليوم ، مع الإثم ، وهل يقضي أو لا يقضي ؟ هذه مسألة أخرى وقد تقرر عندنا أن العامد فإفساد الصوم بلا عذر موجب لذلك أنه لا يقضي لأن العبادة المؤقتة بوقت تفوت بفوات وقتها إلا من عذر ، وتقدم ذلك . والمقصود : هو التفريق بين من أفطر بالمسوغ الشرعي فلا يلزمه إمساك بقية اليوم ، وإليك الفروع المندرجة تحت هذا الضابط فأقول :
منها : إذا طهرت الحائض أثناء النهار فإنه من المعلوم المتقرر أن الحائض لا تصوم وهذه رأت الطهر في نهار الصيام فهل يلزمها إمساك بقية اليوم أم لا ؟ أقول : المشهور من المذهب أنه يلزمها الإمساك بقية اليوم لحرمة الزمن ، ولكن الراجح إن شاء الله تعالى أنه لا يلزمها ذلك الإمساك لأنه قد أفطرت أول اليوم بالمسوغ الشرعي فلا يلزمها إمساك بقية اليوم ، وحرمة الزمن باقية في حق غيرها أما هي فلا حرمة لهذا اليوم في حقها لزوال الحرمة بالفطر الذي اقتضاه العذر المعتني شرعاً والله أعلم .
ومنها : النفساء إذا طهرت في أثناء النهار يقال فيها ما قيل في الحائض إذا طهرت ، والراجح في هذا الفرع هو بعينه الراجح في الفرع الذي قبله ومأخذ الترجيح واحد في كليهما والله أعلم .
ومنها : إذا قدم المسافر مفطراً فهل يلزمه إمساك بقية اليوم أم لا ؟ أقول فيه خلاف والمشهور من المذهب أنه يلزمه الإمساك لحرمة الوقت ولكن الصواب في هذا أنه لا يلزمه الإمساك بقية اليوم لأنه استحل حرمة رمضان بالمسوغ الشرعي ومن استحل حرمة رمضان بالعذر الشرعي فإنه يلزمه إمساك بقية اليوم ، نعم يختفي بفطره عن الناس الذين لا يعرفون حقيقة حاله حتى لا يتهم في دينه ، هذا صحيح لكن لا يلزمه شرعاً الإمساك لعدم الدليل والأصل بقاؤه مفطراً والله أعلم .
ومنها : إذا عوفي المريض من مرضه الذي أباح له الفطر في نهار رمضان يوم الصوم فهل يلزمه الإمساك أما لا ؟ أقول : فيه خلاف والمشهور من المذهب أنه يلزمه ذلك ولكن الراجح إن شاء الله تعالى أنه لا يلزمه الإمساك وذلك لعدم الدليل ولأنه استحل حرمة هذا اليوم بالمسوغ الشرعي فلا إمساك عليه والله أعلم .
ومنها : من احتاج للفطر لإنقاذ غريق أو معصوم عن هلكة فله ذلك بل ولربما قيل بوجوبه إذا لم يتقوى عليه إلا بالإفطار لأن مصلحة حفظ النفس أوجب مراعاة مصلحة عدم الفطر ، قلة الفطر إيجاباً أو استحباباً لكن إذا أنقذه من الهلكة فهل يلزمه إمساك بقية هذا اليوم ، أقول : فيه خلاف والأصح إن شاء الله تعالى أن لا يلزمه ذلك لأنه قد استحل حرمة هذا اليوم بالمسوغ الشرعي وقد تقرر في الضوابط أنه لا يلزمه إمساك بقية اليوم والله أعلم .
ومنها : إذا أصيب شخص بنزيف مثلاً واحتيج للتبرع له بالدم ولم نجد فصيلة تناسبه إلا فصيلة هذا الصائم والأمر لا يتأخر إلى الإفطار ، فنقول : تبرع لأخيك إيجاباً واستحباباً وأنت بهذا التبرع الكثير عرفاً قد فسد صومك لكن بالمسوغ الشرعي ، فجزاك الله خيرا ، ولا يلزمك إمساك بقية اليوم لأن حرمته زالت في حقك بالعذر المعتبر شرعاً ، وعليك قضاؤه من أيام آخر ، هذا هو الراجح إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلم .
ومنها : من جامع عالماً عامداً في نهار رمضان فإننا نقول له : أفسدت صومك يا هذا ، واستحللت حرمة اليوم بلا مسوغ شرعي ولا عذر شرعي ، فعليك إمساك بقيته ولا يحل لك تناول شيء من المفطرات لأن الحرمة باقية في حقك واستحلالك لها لا يحلها وقد تقرر أن من استحل حرمة رمضان بلا مسوغ شرعي فإنه يلزمه إمساك بقية اليوم والله أعلم .
ومنها : إن بعض الفحول من الرجال فيه مرض اشتداد الشهوة بحيث لا يفتر ذكره ، نسأل الله العافية والسلامة ، وهو ما يسمى بالشبق بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة ، وهذا المرض يوجب على صاحبه أن يخرج ماءه دائماً وإلا لأدى به إلى الهلاك وتشقق أنثييه ، فإذا كان صائماً واضطر إلى أخراج مائه فنقول : يجوز لك حينئذ ذلك بشروط : الأول : أن لا تندفع شهوته إلا بالوطء في الفرج ، فإذا كانت شهوته تندفع بغير ذلك فلا يجوز له حينئذ الوطء في الفرج ، فإن كانت تندفع بالاستمناء بيد زوجته أوطء فيما دون الفرج فله ذلك أي إخراج مائه بهذه الأشياء لأنه يخاف على نفسه فهو كالمريض وقد قال تعالى : ( وإن كنتم مرضى أو على سفر فعدة من أيام أخر ) الثاني : أن لا يجد بدال من وطء زوجته الصائمة فإن كان له زوجتان وإحداهما مفطرة لعذر غير حيض ونفاس فإنه يقدمها على الصائمة حتى لا يفسد صومها ، أما إذا لم يكن عنده إلا هذه الصائمة فنقول له : أعانك الله وثبتك وصبرك على هذه المصيبة فاصبري واحتسبي الأجر من الله ومكنيه منك ويكون صومك فاسداً وصومه فاسداً لكن بالمسوغ الشرعي ومن أفطر بالعذر المعتبر شرعاً فإنه لا يلزمه إمساك بقية اليوم ، والله المستعان وهو أعلم .
ومنها : من أكل أو شرب في نهار رمضان عالماً ذاكراً مختاراً فنقول له : قف عن الأكل وعليك الإثم وصومك فاسد ويلزمك إمساك بقية هذا اليوم مع فساده لأن حرمة اليوم باقية في حقك وقد تقرر أن من استحل حرمة رمضان بلا مسوغ شرعي أنه يلزمه إمساك بقية اليوم ، والله ربنا أعلى وأعلم .
وخلاصة الضابط أن فيه منطوقاً ومفهوماً ، فأما المنطوق فيقضي بوجوب الإمساك على من ارتكب مفسداً للصوم بلا عذر معتبر شرعاً ، ومفهومه يقضي بأن من فعل شيئاً من المفطرات بالعذر الشرعي أنه لا مؤآخذة ولا يلزمه إمساك بقية اليوم والله يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم .

محب الدعوة
08-06-2010, 03:06 PM
الضابط السابع
من جاز له الفطر والصوم سن الأخف منهما وأفطر على ما شاء

أقول : الحمد لله حمد كثيراً طيباًً مباركاً فيه كما يحبه ربنا ويرضاه على أن جعلنا من أهل هذه الشريعة السمحة السهلة في أحكامها وشرائعها التي وضع الله عنه الأغلال والآصار التي كانت على من قبله ، فهذه والله نعمة عظيمة تستوجب الشكر ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً فالحمدلله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً ، وله الشكر كله أوله وآخره وسره وعلانيته ثم أقول : إننا قد ذكرنا سابقاً أن متى تحقق فيه المسوغ الشرعي المجيز له الفطر في نهار رمضان فإنه يجوز له ذلك ، والمسوغات الشرعية كثيرة : كالمرض والسفر والخوف على النفس أو على الغير إذا كان في إفطارك إنقاذ له ، كل ذلك من جملة المسوغات الشرعية للفطر ، فالأصل إذاً هو أن من تحقق فيه أحد هذه المسوغات فإنه يجوز له الفطر ، إذاً فالكلام في هذا الضابط ليس على الجواز هل يجوز الفطر أم لا ؟ لأننا فرغنا من قضية الجواز ، لكن الكلام هنا عن أيهما أفضل أن يفطر أم يبقى صائماً ، فأفهم هذا بعض الطلبة هدانا الله وإياه إذا تكلمنا من هذه المسألة اختلط عليه الأمر فقال : كيف تقولون الأفضل للمسافر الصوم مع أن الله تعالى يقول : ( وإن كنت مرضى أو على سفر فعدة من أيام أخر ) فنقول له : هذا في الجواز ونحن نبحث في الأفضلة ، وأيضاً نقول : إن الطالب المفلح جعلنا الله وإياك منهم ينبغي له إذا نظر في المسألة أن ينظر في الأدلة كلها ، ومسألة الصوم والفطر في السفر فيها أدلة من السنة كثيرة غير هذه الآية الكريمة ، وعلى كل حال فالمسألة التي نبحثها في هذا الضابط هي: هل الأفضل لمن جاز له الفطر أن يفطر أم يبقى صائماً ، هذا هو ما يجيب عن هذا الضابط ومفاد الجواب أن يقال : إن الأفضل في حق من جاز له الفطر هو الأخف ، والأبعد عن المشقة ، فإن كان الفطر أخف له وأبعد من المشقة فالفطر أفضل وإن لم يكن في إتمام الصوم مشقة وهو خفيف عليه فالصوم أفضل ، إذاً فالأفضل منهما هو الأخف في حقه ، وهذا القول هو الراجح الذي به تتآلف الأدلة وتتفق دلالاتها وهو وسط بين قولين : الأول : أن الأفضل الفطر مطلقاً وهو المشهور من مذهبنا ، الثاني : أن الأفضل الصوم مطلقاً وهو المشهور عند الشافعية والثالث : هو هذا القول الوسط بهذا التفصيل – رحم الله العلماء رحمة واسعة وأعلا نزلهم في الجنة وغفر الله لأمواتهم وثبت أحياءهم آمين .

محب الدعوة
07-16-2011, 11:09 PM
سبحان الله وبحمد ، اللهم بلغنا إياه ..