المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قواعد في الحكم على الآخرين ( 3 )


محب الدعوة
06-22-2010, 11:08 PM
(( القاعدة السادسة ))
الحكم العام على الأقوال والأفعال لا يستلزم انطباقه على الأفراد قطعاً إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع
أقول : وهذه القاعدة كالفرع للقاعدة قبلها ، وبيانها أن يقال : إن أهل السنة والجماعة – رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم يطلقون أحياناً أحكاماً عامة على بعض الأقوال والأفعال كقولهم – : من قال كذا فهو كذا، فهم بذلك لا يريدون أن هذا الحكم العام ينطبق على كل أفراده انطباقاً قطعياً وإنما يريدون بذلك بيان حكم القول أو هذا الفعل فقط وأما انطباقه على أفراده فإنه متروك لاجتهادك ونظرك في ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ، وهذا لابد من فهمه وذلك كقولهم : من شبه الله بخلقه كفر ، لا يلزم منه أن كل مشبّهٍ بعينه يكون كافراً وإنما المراد أن حكم التشبيه كفر لكن هل هذا المشبه بعينه يكفر ؟ هذا هو الذي يحتاج إلى النظر في ثبوت الشروط السابقة وانتفاء الموانع، وكقولهم : من أنكر صفة من صفات الله كفر ، أيضاً لا يلزم منه أن كل من أنكر صفة كفر بعينه بل يريدون بذلك بيان حكم الإنكار فقط وأما انطباقه على شخص بعينه أنكر شيئاً من الصفات فإنه يحتاج إلى ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ؛ وكذلك قولهم : من قال بخلق القرآن كفر ، أيضاً فيه بيان حكم هذا القول ، لكن لا يلزم منه أن يكفر كل من قال بخلق القرآن بعينه وكذلك لم يكفّر الإمام أحمد المأمون مع قوله بخلق القرآن ذلك لأن الحكم العام على الأقوال والأفعال لا يلزم منه انطباقه على أفراده الانطباق القطعي بل يفتقر قبل ذلك إلى النظر في ثبوت الشروط وانتفاء الموانع؛ وكذلك قولهم : من أنكر قدرة الله أو علمه فقد كفر، إنما فيه بيان حكم هذا القول فقط لكن لا ينطبق على فرد بعينه وقع في ذلك إلا بعد النظر في الشروط والموانع ، ومن ذلك قوله  : ( لعنت الخمرة على عشرة أوجه ) وذكر منها ( وشاربها ) لكن هذا لعن عام فيطبق عليه هذه القاعدة أن الحكم العام لا يستلزم انطباقه على كل أفراده قطعاً بدليل أنه لما لعن أحد الحاضرين عياض بن حمار لكثرة ما يؤتى به فيجلد في الخمر نهاه النبي  عن ذلك لأن اللعن الآن قد توجه للمعين واللعن العام لا يستلزم لعن كل من وقع في الأمر الملعون فاعله ، ومن ذلك قولهم : من أنكر رؤية الله في الآخرة فهو كافر يقال فيه ما قد قيل في سابقه من أنه لا يلزم من هذا الحكم العام أن ينطبق على كل منكرٍ بعينه إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ، إذاً فهمنا من ذلك أن الحكم العام شيء والحكم للمعين شيء آخر ، كما فرقنا سابقاً في حكم الفعل وحكم الفاعل ، ويؤيد هذا أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى لم يكفر أعيان الجهمية فتكفيره هو والسلف للجهمية والقدرية لا يقتضي تكفير كل جهمي وكل قدري ، وكذلك غيرهما من الفرق التي كفرها السلف لا يلزم من تكفيرها تكفير أعيان هذه الفرق ، ولذلك فقد ثبت عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم ولو كانوا مرتدين بأعيانهم بما قالوه لم يجز الاستغفار لهم فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع . ويؤيد هذا الأدلة السابقة في القاعدة قبلها ونزيدها ما رواه البخاري عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ قال : جاء النبي  فدخل حين بني علي فجلس على فراشي مجلسك مني فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدرٍ ، إذ قالت إحداهن : وفينا نبي يعلم ما في غدٍ ، فقال : ( دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين ) ومن المعلوم أن كل من ادعى أن أحداً يعلم الغيب فإنه كافر إلا أن هذا الحكم عام ، والحكم العام لا ينطبق على أفراده الانطباق القطعي ، وهذه الجارية لم ينطبق عليها حكم قولها هذا لأنها كانت جاهلة واكتفى النبي  بنهيها عن ذلك فدل ذلك على أن الحكم العام لا ينطبق على أفراده إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ، ولذلك نص الأئمة رحمهم الله تعالى أن من أعظم البغي أن يشهد على المعين بالكفر إلا بالبرهان الساطع والدليل القاطع فمن أراد الحكم على المعين بشيء من ذلك فعليه أن يراعي هذا الأمر المثبت في هذه القاعدة والله أعلم . ولهذا يتفرع عندنا عن هذه القاعدة عدة ضوابط مهمة جداً فاحفظها واجعلها نصب عينيك عند الحكم على أحدٍ بشيء وهي :
الأولى : التكفير العام لا يستلزم كفر المعين إلا بثبوت الشروط وانتفاء الموانع .
الثاني : التبديع العام لا يستلزم تبديع المعين إلا بثبوت الشروط وانتفاء الموانع .
الثالث : اللعن العام لا يستلزم لعن المعين إلا بثبوت الشروط وانتفاء الموانع .
الرابع: التفسيق العام لا يستلزم تفسيق المعين إلا بثبوت الشروط وانتفاء الموانع.
الخامس : التأثيم العام لا يستلزم تأثيم المعين إلا بثبوت الشروط وانتفاء الموانع .
فهذا هو خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وهو أعلى وأعلم .






(( القاعدة السابعة ))
لا تقوم الحجة على المعين إلا بالبلوغ ومطلق الفهم
أقول : لقد شرحت هذه القاعدة بالأدلة والفروع في " القول الرشيد في سرد فوائد التوحيد " ولكن لأهميتها ولتعلقها التعلق التام بموضوع بحثنا جعلتها قاعدة مفردة وذلك لأنها مهمة جداً في الحكم على الأعيان ، وذلك لأننا ذكرنا في القاعدة السابقة أن الحكم لا ينطبق على الأفراد إلا بالشروط ومن الشروط العلم والمراد به قيام الحجة على المكلف التي يكفر من خالفها أو يبدع أو يفسق ونحوه ، وقد اختلف العلماء فيما تقوم به الحجة على قولين فمنهم من قال بأنها تقوم إلا بالبلوغ فقط ولا يشترط الفهم ، ومنهم من قال أنها لا تقوم بالبلوغ والفهم ؛ وقد حققنا أن الخلاف بينهم لفظي لا حقيقي وذلك أن الجميع اشترط لقيامها مطلق الفهم والجميع اتفقوا على أنه ليس من شروطها الفهم المطلق والذين يثبتونه إنما يريدون إثبات مطلق الفهم ، ولذلك فهذه القاعدة متفق على مدلولها بين العلماء رحمهم الله تعالى وبه تعلم أن الحجة على المكلف لا تقوم إلا بأمرين : الأول بلوغ النص ، والثاني فهمه مطلق الفهم ، ونعني بمطلق الفهم أي معرفته وإدراكه مطلق الإدراك وهذه القاعدة قد تظافرت الأدلة على صحتها ويكفيك في ذلك إجماع العلماء قاطبة على مقتضاها ، فإن الإجماع حجة يجب المصير إليه وتحرم مخالفته وخصوصاً الإجماع القطعي ، وقد ذكرنا في موضع آخر التفريق بين مطلق الشيء والشيء المطلق فمن الأدلة على صحتها غير الإجماع قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتى نَبْعَثَ رَسُولاً } وقوله تعالى: { وَأُوحِيَ إِليَّ هَذَا القُرْآن لأنْذِرَكُم بِهِ وَمنْ بَلغ } فهذا إخبار من الله تعالى عن عدله وأن لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسل ، وأن الله جل وعلا أنزل كتابه للإنذار وإقامة الحجة على العباد ومن ذلك حديث ابن عمر في القوم الذين صلوا إلى بيت المقدس بعد نسخه وعذروا بذلك لعدم علمهم بالناسخ فإذا كان هذا حال القريب من مهبط الأدلة فكيف بمن كان بعيداً كأهل مكة واليمن ومن في الحبشة فلا معذورون لعدم علمهم ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، ومن ذلك الحديث المشهور الذي رواه الإمام أحمد في المسند عن النبي  أنه قال: ( يكون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئاً ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً ، وأما الأحمق فيقول : رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : أي رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ، وأما الذي مات في الفترة فيقول : أي رب ما أتاني من رسول ، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار ، قال : فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً ) صححه الحافظ ابن القيم وعبد الحق الإشبيلي وغيرهم . فهؤلاء قد عذرهم الله تعالى ، فأما الأصم الذي لا يسمع ومن مات في الفترة فعذرهما لعدم وصول الحجة إليهم ، وأما الأحمق والهرم فعذرهما لعدم فهمهما ، مما يدل على اشتراط البلوغ والفهم لقيام الحجة ، ومن ذلك أيضاً : حديث عدي بن حاتم في أكله في نهار رمضان فإن النص قد بلغه ولكنه لم يفهمه على وجهه الصحيح ولذلك عذره النبي  لعدم فهمه ، مما يدل على أهمية الفهم لقيام الحجة ، وكذلك حديث ( لا يصليّن أحدكم العصر إلا في بني قريضة ) وأن بعض القوم أخرها عن وقتها وبعضهم صلاها في وقتها في الطريق ولم يعنف النبي  على أحدٍ منهم ، ومن المعلوم أن أحد الفريقين أخطأ في الفهم لأن الحق لا يتعدد فكون النبي  لم يعنف على أحدٍ منهم دل على أنه عذر المخطئ لعدم فهمه للنص، مما يدل على أهمية الفهم لقيام الحجة ، ومن ذلك حديث الذي أهدى للنبي  رق خمر فقال: ( أما علمت أنها حرمت ) فهذا لم يعنفه النبي  لعدم علمه بالتحريم لأن النص لم يبلغه لكونه من الأعراب فدل على اشتراط بلوغ النص لقيام الحجة. ومن ذلك حديث الذي بال في المسجد وأن النبي  لم يزجره بل تركه يبول وقال له : ( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا الأذى والقذر... الحديث ) ففعله فعل جاهل لا يعلم بالحكم فعذره  لأن الحجة لم تقم عليه لعدم بلوغ النص إليه ولذلك ترفق به  وعلمه أكمل التعليم بأحسن بيان . ومثله أنه لما ضاع عقد عائشة في سفرهم الذي نزلت فيه آية التيمم بعث  قوماً يتلمسونه وليسوا على ماءً وليس معهم ماء فنزلت آية التيمم ومرت عليهم بعض الصلوات ولم يثبت أنه  أمر أحداً منهم بالإعادة لأنهم معذورون بعدم العلم بالدليل ، فدل ذلك على اشتراط البلوغ أي بلوغ النص لقيام الحجة . ومثله حديث عمار وعمر فقد عذرهما النبي  لكونهما لم يفهما النص على وجهه الصحيح ، وإلا فالنص الآمر بالتيمم قد بلغهما لكن عماراً كان يجهل صفة التيمم عن الحدث الأكبر، وعمر كان يظن أنه لا يرتفع به الحديث الأكبر فعذرا لعدم الفهم مما يدل على أهمية الفهم لقيام الحجة . ومن ذلك أنه لما أتمت صلاة الحضر أربعاً بعد الهجرة نعلم جزماً أن هذا الحكم لم يصل إلى المسلمين في البلاد البعيدة كمكة وأهل اليمن ومن في الحبشة إلا بعد مدة طويلة ومع ذلك لم يأمر  أحداً بالإعادة وذلك لعدم بلوغ النص. والأدلة على ذلك كثيرة وهذا من رحمة الله تعالى بعباده فاليقين القاطع الذي لا يتطرق إليه شك هو أن الحجة لا تقوم إلا بمجموع الأمرين بلوغ الدليل وفهمه مطلق الفهم ، وبناءً عليه فإنه لا يجوز إصدار أي حكم من الأحكام على أحدٍ إلا بعد التأكد من أنه قد قامت الحجة الرسالية عليه بتحقق هذين الشرطين ولا تتعجل في إصدار الحكم بل عليك بالرفق والتبين ، وهذا يدخل فيه كثير من العامة الذين نشئوا في البلاد التي يقرر فيها الشرك والبدعة مع أن كلمة الحق لا تصل إليهم لإحكام القبضة عليهم من ولاة السوء وعلماء الضلالة الذين يجيزون للعامة فعل ذلك بل ويحضرون معهم للمشاركة في موالدهم وبدعهم ، مع كسل كثير من الدعاة عن الوصول إليهم وتعليمهم والاكتفاء بالمراسلة وإيصال الشريط أو الكتيب وهذا في الحقيقة غير كافٍ فإن الشبهة عند هؤلاء العوام قوية فالمنصف لا يتسرع بالحكم عليهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم ، ومثل هؤلاء من نشأ في بادية بعيدة عن العلم والعلماء وليست عنده الوسائل للوصول إليهم أو الاتصال بهم فهذا أيضاً معذور إن خالف المأمور أو فعل المحظور لجهله. ومثله الكافر إذا أسلم في دار الحرب ولم يستطع الهجرة فإن دار الحرب تخلو من أهل العلم وطلابه فنعلم جزماً أن الحجة لم تقم عليه. ومن ذلك من كان متأولاً تأويلاً سائغاً فخالف بهذا التأويل مأموراً به أو منهياً عنه فهو أيضاً معذور كما عذر النبي  عدي بن حاتم ومعاذ في سجوده بين يديه ، وعمر وعمار فيما فعلاه ، ومن أخرج صلاة العصر عن وقتها كما في الحديث السابق ، وكما عذر حاطب بن أبي بلتعة في كتابه للمشركين ، وكما قال الإمام الزهري رحمه الله تعالى عليه: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن كل دمٍ أو مالٍ أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر ، أنزلوهم منزلة الجاهلية . أ.هـ
وذلك لأن التأويل منشؤه من عدم الفهم ، ومن ذلك قتل أسامة بن زيد الرجل لما قال " لا إله إلا الله " فإنه كان متأولا فلم يوجب  عليه القود ومن ذلك قتل خالد بن الوليد لبني خزيمة فإنهم أرادوا أن يقولوا : أسلمنا أسلمنا فقالوا : حبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل فيهم ويأسر ، فقال عليه الصلاة والسلام: ( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ، مرتين ) والحديث في البخاري ، ولم يأمره بالقود ولا بالدية مما يدل على أنه كان معذوراً في ذلك لخطئه وتأويله – رضي الله عنه – وعن عامة أصحابه  وبالجملة فالأمر خطير وإطلاق اللسان في هذه المسائل بلا علم ولا برهان عاقبته وخيمة في الدنيا والآخرة فإحكام اللسان وحبسه عن الخوض في ذلك هو السلامة والعافية نعوذ بالله من الخذلان ومن إصدار الأحكام على الآخرين بلا علم ولا برهان والله تعالى أعلم وأعلى .


(( القاعدة الثامنة ))
لا يحكم على الغير بمخالفته شيئاً ثبت الخلاف فيه لاسيما إن كان قويا
أقول : إن هناك مسائل علمية قد اختلف أهل العلم فيها . وبعضها يكون الخلاف بينهم قويا ، فإذا أجتهد مجتهد في مسألة من المسائل وترجح له قول من الأقوال في هذه المسألة واستلزم ترجيحه هذا أن المخالف له يكفر أو يبدع أو يفسق ، فلا يجعل ذلك لازما بل يعمل بقوله ويدع الحكم على الآخرين الذين خالفوه لأنهم أيضا اجتهدوا في هذه المسألة وترجح لهم خلاف قولك ، فلوا أننا فتحنا باب التراشق بالأحكام أو اتهام النوايا لما سلم لنا أحد من السابقين والمعاصرين ولا اللاحقين ، لكن قولك الراجح عندك اعمل به ولا تتعرض لإخوانك المخالفين لك في الرأي بشيء أبدا بل لا يفسد هذا الخلاف ودكم ولا يكدر صفاءكم ولا ينغص أخوتكم ، والمقصود من ذلك إذا كانت هذه المسألة مما يسوغ فيها الخلاف لاحتمال الدليل احتمالا تسوغ معه المخالفة فإن من ضيق العطن أن تلزم الناس برأيك الذي رأيته راجحا ، فإن كلا يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم  وكذلك فالمتقرر عند أهل العلم أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد ولذلك فوصيتي للطلبة أن يتعلموا أدب الخلاف قبل الدخول في بحث مسائل الخلاف ، فإن مخالفة هذه الآداب أو بعضها يوجب الوقوع في الحكم الجائر على الآخرين وهو ما لا يزيده وهو الذي نحذر منه أشد التحذير ، ومن أجله كتبنا هذه الكتابة ، فإننا نريد أن نسد كل الأبواب المفضية إلى الخلل في الحكم على الغير ومن هذه الأبواب أن تحكم على الآخرين بمجرد المخالفة لنا في مسألة خلافية يسوغ فيها الخلاف ، فإنه لا يجوز ، ومن باب التوضيح نضرب لك بعض الأمثلة على ذلك / فأقول :منها اختلف العلماء في كفر تارك الصلاة تهاونا وكسلا على أقوال ، والمقصود أنه إن ترجح عندك أنه يكفر فلا تصدر هذا الحكم على الأعيان إلا بعد قيام الحجة عليهم ومن خالفك في تكفير من رجحت كفره فلا تكفره لأن المسألة خلافية قديمة . والخلاف فيها قوي . والعجب أنك تسمع بعض الصغار يقول : هذا الرجل تارك للصلاة فهو كافر ، فقال له آخر ، بل ليس هو بكافر ، فقال له الأول : إنك كافر أيضا لأنك شككت في كفره ومن شك في كفر الكافر فإنه يكفر ، قلت : إن بعض الناس لا علاج له عندنا إلا أن يخاط فمه بالمخيط ليرتاح ويريح وهذا منهم وما أتينا إلا من هؤلاء الصغار حدثاء الأسنان في العلم مما لا يعرفون أدبا ولا حقا بل هم الواحد منهم أن يفتل عضلاته بإصدار هذه الأحكام على إخوانه ليثبت للناس أنه بلغ الدرجة العالية في العلم ، فنعوذ بالله من الخذلان والله يحفظنا وإياك من الزلل القولي والفعلي والله أعلم .
منها : من المعلوم أن تصحيح الحديث وتحسينه أو تضعيفه من المسائل الاجتهادية ما لم تتفق الأمة على شيء من ذلك فإذا صححت حديثا من الأحاديث التي تثبت عقيدة أو شريعة وخالفك في تصحيحه رجل آخر فإياك إياك أن تحكم عليه بمقتضى هذه المخالفة لأن المسألة خلافية ومبناها على الاجتهاد ، وهو لم يصح عنده فرد مدلوله لعدم الصحة وقد صح عندك مدلوله ، فكل يأخذ بما توصل إليه ، ويعذر أحدهما صاحبه في هذه المخالفة لأنها في أمر يسوغ في الخلاف ، فما أجمل ذلك وما أنفع عائدته من بقاء الألفة وصفاء المحبة وتقارب النفوس وغير ذلك من الحكم والمصالح والله أعلم .
منها: حكم الجهاد على الأعيان في هذه الأزمة التي تمر بها الأمة الإسلامية ، فمن الناس من يقول هو فرض على القادرين ولو كانوا في بلاد أخرى لها حاكم مستقل ومنهم من يقول : لا يجب على أعيان هذه البلاد إلا إذا استنفرهم الإمام أو حضر العدو بلدهم أو حضر هو صف القتال ، فالمسألة ليست في حكم الجهاد أصلا فإن حكمه معروف وهو فرض كفاية لكن الخلاف في ثبوته عينا على بعض الأفراد ، فإنها من المسائل التي ثبت فيها الخلاف ، فلا بد من مراعاة هذه القاعدة فإنني سمعت وسمع غيري من الذين يوجبون الجهاد على أعيان الأمة بعض العبارات التي توجب المفسدة وإيغار القلوب وبث الشحناء ، من أن الطرف الآخر جبناء ، أو عملاء أو يريدون إطفاء روح الجهاد في الأمة أو يتهمون بعدم فهم الواقع أو بالنفاق أو يوصفون بالجهل ، وهذا كله حكم على الغير في مسألة خلافية وذلك لا يجوز لأن اجتهادك ليس بلازم لغيرك وليس قولك هذا بنص في المسائل يجب الأخذ به ولا يجوز تعديه ، ومن أنت يا هذا ؟ فاحفظ لسانك والزم جادة الأدب مع الآخرين ولا تطلق العنان للسانك بالثلب والتجريح واتهام النيات فتزيد الأمر سوءا وفسادا فلا تحكم على غيرك لأنه خالفك في أمر رأيته ولا في حكم رجحته ، فإن هذا من الإجحاف وأنت مأمور بالإنصاف ، ويبقى بعد ذلك بيان الأدلة ووجه الاستشهاد والنصيحة والمجادلة بالتي هي أحسن ليتضح الحق وتبين المحجة . أما الكلام الجانبي الذي لا داعي له، فلا ينبغي قوله ، فإنك عنه محاسب ، وبإثبات صحته مطالب ، والله من وراء القصد وهو أعلى وأعلم .
منها : المخالفة في المذاهب فهذا على مذهب الحنفية وهذا على مذهب الشافعية أو المالكية أو الحنابلة فإن هذا الاختلاف مما يسوغ فلا تحكم على الآخرين بالضلال أو البدعة أو الخروج عن دائرة السنة لأنهم خالفوا في المذهب فإن هذا التعصب يؤخر الأمة ، وقد حصل في الأمة من جرائه ما لا يخفى على من قرأ التاريخ ، ولقد رأيت في بعض البلاد التي تعتمد بعض هذه المذاهب أنهم يجعلونه هو الإسلام بعينه وما سواه فضلال وكفر ، وقد سمعت أن الحنفي لا يصلي خلف الشافعي والعكس والمالكي لا يصلي خلف الحنبلي والعكس وهكذا بل قد تقام في المسجد الواحد أربع جماعات بعدد المذاهب المتبعة وهذا والله إنما أفرزته العصبية المقيتة والمذهبية المميتة ، ولذلك فالحق في هذا الباب هو أن إتباع أحد هذه المذاهب جائز وليس بواجب وإن خالف المذهب الذي تتبعه الدليل فالواجب عليك هو الأخذ بالدليل وإطراح المذاهب ومن خالفك في المذهب فإياك أن تصفه بشيء لأن هذا مما يسوغ فالكل إخوة متحابون ، ولا يأتنا متحذلق ومتنطع يقول : بما أن هذه المذاهب أوجبت تفريق الأمة فلنطرحها لأننا سنقول له : طرح الله رأسك يا هذا وأراح الأمة منك فإن هذه المذاهب خلاصة فهم المتقدمين وهي باقية إن شاء الله تعالى إلى قيام الساعة وإنما الذي نطرحه وجوبا هو التعصب لها ، وتقديمها على الدليل عند المخالفة ، والحكم على المخالف فيها بما لا يجوز وقد حدثني من أثق به أنه صلى إماما بقوم شافعية وهو حنبلي ولم يجهر بالبسملة ولم يقنت في آخر الصلاة فرأى هؤلاء بجهلهم وتعصبهم أن صلاته باطلة وأعادوا الصلاة وقنتوا عليه وهذا هو الذي نحذر منه ولذلك نعلم الحكمة من قول العلماء إن فعل الشيء الذي يكون في فعله مصلحة التأليف مما قال به بعض أهل العلم هو الأفضل كالجهر بالبسملة للتأليف والقنوت كذلك للتأليف وعدم الجهر بالتأمين للتأليف وهكذا فإن مصلحة التأليف أهم من مراعاة متابعة الراجح في هذه الأقوال والله يتولانا وإياك والكلام في هذه المسألة يطول لكن هذا هو خلاصتها .
منها: الخلاف في تكفير تارك الزكاة بخلا ، فإن الخلاف في ذلك قوي ، وهو يورث شبهة فإذا رجحت أن فاعل ذلك يكفر، فاجعله من باب التكفير بالوصف العام ولا توجهه للمعين أبدا تفريعا على هذه القاعدة والعلة في ذلك هو أن هذا الشخص قد ثبت إسلامه بيقين والأصل هو البقاء على اليقين ولا نخرجه من دائرة الإسلام بالشك أو التخرص أو التعصب ووجود الخلاف في هذه المسائل مما يجعلنا نتوقف عن الحكم على المخالف لنا فيما رجحناه عملا بقاعدة اليقين لا يزول بالشك ، فالأصل هو إسلامه وسبب كفره مشكوك فيه فالعاقل المنصف لا يترك المتيقن من أجل المظنون المشكوك فيه .
منها: نبتت في هذه الأزمنة طائفة تدعى بجماعة التكفير والهجرة ، وخلاصة قولهم : أنهم إن كفروا أحدا بعينه فإنهم يجعلون قولهم هذا نصا قاطعا ومحتما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فمن شك في كفر من كفروه فإنه يكفر ولذلك فإنهم كفروا من يعمل عند الحكومات التي كفروها ، وما سلم من تكفيرهم إلا القليل وهذا سخف وجهل وحماقة ورعونة ، وقل فيه ما شئت من أوصاف الذم ، وما أخلقهم بقوله  في الخوارج إذ هم فرع منهم ، وسبب ضلالهم هو مخالفتهم هذه القاعدة ، وهو أنهم ألزموا الأمة باجتهادهم في تكفير الأعيان ومن المعلوم أن تكفير الأعيان نوع اجتهاد قد يخالفك فيه غيرك فهي مسألة اجتهادية فحيث كانت كذلك فتحمل أنت قولك واعمل به ولكن لا تلزم غيرك به ولا تحكم على من خالفك فيه بشيء فتكون من الخاسرين ، فانظر يارعاك الله أهمية هذه القاعدة فإنها تسد بابا عظيما وتمنع خطرا جسيما من وابل الأحكام التي لم تبن على هدى وبصيرة وإنما مبناها على التعصب والهوى والحماقة ويذكرني هذا الكلام بالفرقة التافهة التي ظهرت في زماننا من الذين وقعوا في أعراض بعض العلماء ثلباً وسباً وتجريحاً والويل لك ثم الويل إن لم توافقهم على قولهم وشعارهم في ذلك يقول : إن لم تكن معنا فأنت ضدنا . فأسأل الله تعالى أن يهدي القلوب ويفتح قلوبنا للعلم النافع ويهدي جوارحنا للعمل النافع ، وإني موقن أنني بهذه الكتابة عندهم سأكون حزبيا أو سروريا ، لأن هؤلاء القوم لا يتورعون أبدا عن التصنيف عافانا الله وإياك من كل بلاء ، وجعلني الله وإياك من حزب الله المفلحين لا من حزب الله اللبنانيين ، والله أعلم وأعلى . ونختم هذه القاعدة بذكر شيئا من أدب الخلاف عسى الله أن يختم لنا ولك بخير فأقول : من آداب الخلاف إحسان الكلام وقول التي هي أحسن قال تعالى :{ وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا التي هِيَ أَحسَن إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَينَهُم } وقال تعالى :{ وَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً } ومن ذلك معرفة نوع المسألة المختلف فيها وتحرير محل النزاع لأنه غالبا ما يكون الخلاف خلاف تنوع لا تضاد وإنما الذي أوجب التنازع هو عدم تحرير محل النزاع ومن ذلك أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد السائغ ، ومن ذلك إطراح التعصب المذموم وهو أن لا ترجع إلا الحق بعد وضوحه وأن تحمل خصمك على قولك قصرا ، وإلا فيا ويله وويل أمه من لسانك واتهاماتك ويدخل في ذلك ليُّ أعناق الأدلة لموافقة المذهب ومن ذلك : أن يكون قصد الطرفين معرفة الحق والوصول إليه ، ومن ذلك أن تجعل قولك قابلا للترك وقول خصمك متحمل القبول ، ومن ذلك : عدم إشغال العامة بسماع الخلاف وذيوعه بينهم ، ومن ذلك حسن الظن بالمخالف وطلب العذر له فيارب أسألك باسمك الأعظم أن تقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأن تحفظ علينا أخوة الإيمان إنك خير مسئول والله أعلم وأعلى .

قدوتي محمد صلى الله عليه وسلم
06-23-2010, 05:59 AM
جزاك الله خيرا

محب الدعوة
01-04-2011, 06:49 PM
وإياك ..