عرض مشاركة واحدة
قديم 08-06-2010, 03:03 PM   #4
إداري
 
تاريخ التسجيل: Jun 2010
المشاركات: 1,222
افتراضي رد: ضوابط الصيام الفقهية للشيخ وليد السعيدان حفظه الله

الضابط الرابع
لا يؤثر مفسد الصوم إلا بذكر وعلمٍ وإرادة

أقول : أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يقينا شر أنفسنا وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه ، وأن يذيقنا وإياك لذة الحق قبولاً واتباعاً ثم اعلم رفع الله لك الدرجة وأعلا نزلك في الجنة أن الشريعة إما مأمور بفعله إيجاباً أو استحباباً ، وإما ما أمر بتركه تحريماً أو كراهة ، ونحن الآن في القسم الثاني وهو قسم المنهيات ونخص منها المنهيات تحريماً ، فأقول : لقد شرحنا في تلقيح الأفهام قاعدة : لا يؤثر فعل المنهي عنه إلا بذكر وعلم وإرادة ، وهذا الضابط متفرع عن تلك القاعدة ، وبيانه أن يقال : إن مفسدات الصوم التي تقدم الكلام عليها من أكل وشرب وجماع وحجامة واستمناء وردة والتقيؤ وغيرها مما ذكر ، هذه المفسدات لا يترتب عليها أثرها إلا إذا توفر في مرتكبها ثلاثة شروط ، بحث إذا اختل شرط فإنه يتخلف الأثر ، ونعني بالأثر هنا أموراً : إفساد الصوم والقضاء وإلا ثم والكفارة فيما تجب فيه الكفارة كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، وهذه الشروط هي المذكورة في هذا الضابط ، وهي العلم والذكر والإرادة ، وإليك شيء من تفصيلها مع أدلتها وفروعها فأقول وبالله التوفيق :
الشرط الأول : العلم : وضده الجهل ، فلا تؤثر هذه المفسدات إلا إذا كان فعلها عالماً أنها مفسدة لصومه ، وبناءاً عليه فمن فعل شيئاً وهو جاهل بحكمه فإنه لا شيء عليه وصومه صحيح والدليل على ذلك جميع الآيات التي فيها أن الله لا يكلف نفساً إلى وسعها وإلا ما آتاها وأنه لم يحملنا جل وعلا ما لا طاقة لنا به ، وأنه يريد بنا اليسر ولا العسر والتخفيف لا الإثقال ، كل ذلك دليل على اشتراط العلم لثبوت التكليف لأن التكليف بما لا يعلم خارج عن وسع النفس وطاقتها وهو من العسر والإثقال والآصار والأغلال التي جاءت شريعتنا بوضعها ، ويدل عليه بخصوصه من السنة حديث عدي بن حاتم -  - لما نزل قوله تعالى: ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ) قال: فعمدت إلى عقالين أبيض وأسود وجعلتهما تحت وسادتي فجعلت آكل حتى تبينا فإذا الصبح قد طلع ، فذكرت ذلك للنبي  ، فأخبره بالحق وأن المراد بذلك نور القمر وظلمة الليل )(1) ووجه الاستشهاد وأن النبي  لم يأمره بقضاء ذلك اليوم الذي أكل في نهاره مما يدل على أنه عذره وسبب العذر هو عدم العلم أي أن عدي بن حاتم -  - قد أكل وشرب وهو لا يعلم أنه بهذا الأكل والشرب يفسد صومه ظناً منه صواب نفسه ، مما يدل على أن عدم العلم بأنه مفسد عذر في عدم ترتب أثره من فساد الصوم أو الإثم والقضاء ، ولكن ينبغي أن تعلم أن قضية الجهل لا بدلها أن تضبط بضابط مهم وهو أن يكون مثله يجهل ، وقد قررنا سابقاً أن رفع الجهل عن نفسه وتكاسل في ذلك وفرط فإن جهل هذا ليس بعذر في ترك مأمور ولا فعل محظور وأما إن كان لا يستطيع رفع الجهل عن نفسه لعذر ما فهذا هو الذي كون جهله عذراً رافعاً للموآخذة ، وقد ذكرنا هذه المسألة بأوسع من هذا في كتاب المباحث الجلية في رد المسائل الخلافية للكتاب والسنة والله أعلم .
الشرط الثاني : الذكر وضده النسيان فلا تكون هذه الأشياء مفسدة للصوم إلا إذا فعلها الصائم وهو ذاكر لصومه ، ويدل على ذلك قوله تعالى : ( ربنا لا تؤآخذنا إن نسينا أو أخطأنا )(2) وفي صحيح مسلم قال الله ( قد فعلت ) ويدل عليها بخصوصها حديث أبي هريرة في الصحيح قال : قال رسول الله  : ( من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه )(3) وفي لفظ : ( من أكل أو شرب ناسياً فإنما هو رزق رزقـه الله )(4)
وللدارقطي معناه وزاد ( ولا قضاء )(1) وللحاكم في المستدرك مرفوعاً : ( من أكل في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة )(2) وقال : صحيح على شرط مسلم ، فدل ذلك على أنه لا أثر لذلك الأكل والشرب بالنسبة للصائم ويقاس عليه ما عداه لأنه في معناه ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله تعالى رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )(3) حديث إسناده حسن والله أعلم .
الشرط الثالث : الإرادة وضده الإكراه ، فلا يؤثر مفسد الصوم إلا إذا فعله الصائم مختاراً له مريداً لفعله وبناءاً عليه فمن فعل شيئاً من هذه المفسدات مكرهاً فإنه لا شيء عليه فلا إثم ولا قضاء ولا كفارة فيما تجب فيه الكفارة ودليل ذلك قوله تعالى : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) فإذا تجاوز الله تعالى من قول الكفر وفعله مكرهاً مع اطمئنان القلب مع عظمة وكبر شأنه فلأن يكون الإكراه عذراً في إسقاط اثر المفسد للصوم من باب أولى ، فهذا قياس أولوي وقد تقرر في الأصول أنه حجة ، ويدل عليه أيضا الحديث السابق فإن فيه ( وما استكرهوا عليه ) والله أعلم .
وخلاصة الكلام أن هذه المفسدات كلها لا يترتب أثر فعلها على الصائم إلا بتوفر ثلاثة شروط : العلم والذكر والإرادة ، ولا بد من تواجدها جميعاً بمعنى أنه إذا اختل شرط منها فإنه يتخلف الأثر ، فمن فعل المحظور عالماً ذاكراً لكن يجهل أنه مفسد فلا شيء لعيه ومن فعله عالماً مختاراً لكنه ناسِ فلا شيء عليه وهكذا ، إذا علمت هذا فإليك الفروع عليه حتى يتضح أكثر فأقول :
منها : احتجم الصائم ذاكراً مختاراً لكنه كان يجهل أن الحجامة من مفسدات الصوم فما الحكم ؟ أقول : إذا كان جاهلاً ومثله يجهل فإنه لا شيء عليه لأنه لا يؤثر مفسد الصوم إلا بالعلم والله أعلم .
ومنها : جامع الصائم في نهار رمضان مريداً عالماً بحرمة الجماع لكنه كان ناسباً أنه صائم وهذا يحصل أحياناً في أوائل أيام الصيام أفي صوم القضاء ، أو غير ذلك ، فالنسيان طبع الإنسان فمن جامع ناسياً أنه صائم فلا إثم عليه ولا قضاء ولا كفارة لأن مفسد الصوم لا يؤثر إلا بذكر ، وهذا الفرع قد يكون ثقيلاً على بعض النفوس لكن لا شأن لنا بها فالحق أحق أن يتبع والله أعلم .
ومنها : لو قيد الصائم ثم أدخل الماء في فمه فشربه إكراهاً فما حكم صومه ؟ الجواب : أن صومه صحيح ولله الحمد تقبل الله منا ومنه ، ولا أثر لهذه الشربة لأنها حصلت بغير اختياره ، ولا يؤثر مفسد الصوم إلا إذا فعله بإرادته واختياره والله أعلم .
ومنها : لو تمضمض الصائم ثم سبق إلى جوفه شيء من الماء فلا قصد فلا شيء عليه لأنه ليس بمر بيد له ولم يتعمدها قلبه وقد قال تعالى : ( وليس عليكم فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم ) ولكن أقول قرر أهل العلم أن المبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً . والله ربنا أعلى وأعلم .
ومنها : لو طار ذباب إلى حلقه فابتلعه فلا قصد فنقول له : هنيئاً مريئاً لا شيء عليه صومك صحيح لأنه دخل في فيك إلى جوفك فلا إرادة منك وقد تقرر أنه لا يؤثر مفسد الصوم إلا بإرادة ولكن نوصي أخانا هذا أن يحاول إغلاق فمه ما استطاع وخصوصاً في نهار الصوم والله أعلم .
ومنها : لو أصيب الصائم برعاف كثير ونزف دمه فما حكم صومه ؟ نقول : لا شيء عليه فإن خروج الدم هذا ليس له فيه اختيار ولا إرادة لكن عليه أن يحاول إيقافه ما استطاع أو مراجعة أقرب مستشفى لأخذ العلاج اللازم شفاه الله وعافاه ولا بأس إن شاء الله كفارة وطهور والله أعلم .
ومنها : لو احتلم الصائم فما حكم صومه ؟ أقول : صحيح بالإجماع لأنه لا اختيار له في إخراج المني وقد تقرر أن مفسدات الصوم لا تؤثر إلا بذكر وعلم وإرادة والله أعلم . وعلى ذلك فقس لكن بقي عندنا إشكال قد يثور في ذهن البعض وهو قولهم : إن الأدلة دلت على أن نزول دم الحيض والنفاس من جملة مفسدات الصوم : أليس كذلك قلنا : نعم وما ذكاك؟ قالوا : إن العادة أن نزول دم الحيض والنفاس يحصل بلا إرادة ، للصائمة فتخلف شرط الإرادة وقد قررت أنه لا يؤثر مفسد الصوم إلا بذكر وعلم وإرادة فكان ينبغي أن يكون دم الحيض والنفاس ليس بمفسد للصوم لتخلف شرط الإرادة ؟ فكيف جعلتموه مفسدا مع تخلف هذا الشرط ، فأنتم بين أمرين : إما أن تكون قاعدتكم هذه منقوصة بنزول دم الحيض والنفاس وإما أن يكون نزول دم الحيض والنفاس ليس بمفسد للصوم وتكونون بهذا قد خالفتم الإجماع فما جوابكم ؟ قلنا : نظن والله أعلم أن صاحب هذا الإشكال بارك الله فيه لا يفرق بين ما كان من قبيل الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية ، وبيان ذلك أن يقال : إن الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين ، حكم تكليفي وهي الوجوب والندب الحرمة والكراهة والإباحة وحكم وضعي وهو السبب والشرط والصحة والفساد المانع ، فالحيض والنفاس بالنسبة للصوم ليس هو من قبيل الأحكام التكليفية التي نهيت الصائمة عنها حتى إذا حصلت نظرنا في شروط إفسادها للصيام ، وإنما هي من قبيل الأحكام الوضعية فالله تعالى جعل نزول الحيض والنفاس علامة مانعة من الصيام والصلاة ووطء زوجها له ودخول المسجد وقراءة القرآن على قول من يمنعها من قراءة القرآن ، فهذا إشكال ليس بوارد أصلاً وأزيدك بياناً وأقول : الصائم والصائمة ممنوعان من الأكل والشرب وممنوعان من الجماع في نهار رمضان وممنوعان من الاستمناء وممنوعان الحجامة ، لكن هل الصائمة ممنوعة من نزول الحيض والنفاس بالطبع لأن تلك الأشياء الأولى داخلة تحت القدرة وأمرنا بتركها فهي حكم تكليف ، وأما نزول دم الحيض والنفاس ليس بداخل تحت القدرة بل ولو كان داخلاً فإن المرأة لم تؤمر بتحصيله ولا بتركه لأنه من الأحكام الوضعية ونحن نتكلم عن الأحكام التكليفية ولعلك بهذا فهمت المراد بقولنا في الضابط ( تكليفنا ) أي أننا نبحث في شروط مفسدات الصوم التي هي من قبيل الأحكام التكليفية لا الوضعية ولعل الضابط بهذا قد بانت معالمه واتضحت مراسمه والله يعفو عن الزلل والخطأ والتقصير فهو حسبنا ونعم الوكيل وهو أعلى وأعلم .
محب الدعوة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس